أخبار سياسية منوعة

الدين في الحضارة المادية

بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم د. موسى الأنصاري

انتبهت الحضارة المادية إلى الدين بوصفه وعاء الحياة الذي به تكون ، ومنه تفيض ، ولولا وجود الدين ما كان للحياة من وعاء قابل لها ، ومن ثم فالحياة والدين متلازمان تلازم الوعاء ومحتواه ، فبلا وعاء لا محتوى ، وبلا محتوى لا حكمة بوجود الوعاء ، لأن وجوده سيكون مثل عدمه ،

وانتباهها هذا جعلها تشعر بضرورة مشاركته في مشروعها كي يكون له حصة من الحياة ، من جهة ، ومن جهة أخرى شعرت بحرج وجوده كمكون فرض نفسه على مشروعها فلم تجد بداً من الاستجابة ولكنها عملت على تحييده وتهميشه لأن وجوده لا يستجيب وأصل مشروعها الذي غايته الأصل هو تغييب الدين عن واقع الحياة ، وجعل منطقة فراغ بينه وبين الحياة ، ليتمكن مشروع الحضارة المادية من احتلال تلك المنطقة وإشغالها بفروع الدين الثلاثة ؛ السياسة (تدبير الحياة) ، والاقتصاد (بناء هيكل الحياة) ، والاجتماع (بناء شخوص الحياة) ، حيث أن الدين بوصفه وعاء للحياة له ثلاث جهات للإفاضة فهو يفيض من جهة التدبير ، ومن جهة العطاء ، ومن جهة الخلق ومن المعلوم جهة التدبير عنوانها السياسة ، وجهة العطاء عنوانها الاقتصاد ، وجهة الخلق عنوانها الاجتماع ، وهذه الجهات الثلاثة كلها تفاض من الجهة الرابعة وهي الدين وهي الجهة الأصل ، ذاك من البديهي الذي لا تستطيع حتى الحضارة المادية إنكاره هو أن لكل أصل جهات ثلاثة يتصل بها مع الواقع ويتواصل معه ، وإدراكها هذا جعلها تتعامل مع الدين تعامل المحتاط الحذر ، بل بالغت في شدة الاحتياط حتى وصلت إلى مرحلة النجاح في عزل الدين عن الحياة ، وجعله نسيا منسيا!! نتيجة التركيز على جوانبه الثلاثة والعمل على قطع صلة تلك العوامل الثلاثة به ، ومحاولة تقنينها بقوانين وضعية ، ولذا فالقارئ الفطن يلتفت إلى أن مفردة (قانون وضعي) دالة على أن هناك قانونا أصليا تم تهميشه واستبعاده واستبداله ، وإلا فلا يسمى القانون وضعيا ما لم يسبق بقانون أصل ، وعملت تلك القوانين الوضعية ـ الخاضعة للتبدل والتغير استنادا إلى السنة الحاكمة لواضعها وهو الإنسان ـ على إضعاف الصلة والتواصل بين الواقع والدين بوصفه جهة الحضور الأصل ، وحيدته حتى صيرته جهة هامشية تقبع في زاوية نائية من زوايا جهة الاجتماع ، بعد أن نزعت يده تماما من السياسة والاقتصاد ، وصار أمر تدبيرهما متعلق بـ(الأنا) البشرية .
واجتهدت تلك الحضارة على إلفات نظر البشرية عن الدين وتحويلها نحو الاقتصاد بوصفه عصب الحياة ، وتصويره المعادل الموضوعي الفعلي للدين ، بل إن فاعليته في الحياة الفردية والعامة للبشرية أعظم من فاعلية الدين ، وقدرته على تكييف الحياة أكبر وكفاءته أعلى ، فتحول نظر الناس من الدين إلى المادة فاستحالوا كما وصف أمير المؤمنين(ص) [دينهم دنانيرهم ، وقبلتهم نساؤهم] ذاك أن الدين بما هو دين جهة يتعلق المخلوق بها بفطرته التي لا يمكن تبديلها ، ولكن يمكن تزييفها من خلال تحويل مفردات الدين إلى دنانير وليس الأخلاق ، وقبلته الشهوة والهوى ، وليس المعرفة ، مع النظر إلى أن النفس التي هي صورة الروح الملكوتي ووعاؤه في هذا العالم قريبة من الجسد وملتصقة به ، بينما تعلقها بأصلها تعلق ذبذبي أي متعلقة بأصلها بالإشارة ، بينما تعلقها بالجسد تعلق معاشرة وإلفة ، ومن هنا كان الامتحان شاقا وصعبا وخطيرا ، ذاك أن المطلوب من النفس التي هي وعاء الروح أن تعمل جاهدة على تحويل الجسد إلى خادم لها من خلال إدامة توجهها نحو أصلها وعالمها الذي فيه حقيقتها ، أما وجودها الصوري في البدن فهو وجود اعتباري وغير حقيقي ، وعملها يتركز على تحويل البدن إلى وسيلة للارتقاء بالعمل باتجاه العالم العلوي ، لا أن تنشغل في تدبير متطلباته الشهوية ، لأن انشغالها هذا سيجعلها تتحول إلى وسيلة لتحقيق مرادات الجسد ، ووجودها الأصل في البدن وجود تدبير لا وجود وسيلة ، بل العكس هو الصحيح أي أن البدن هو ساحة عمل النفس وميدان بيان أثر الملكوت في عالم الملك ، ولذلك عليها أن تديم التذكر في أنها في هذا العالم حاضرة لنقل رسالة الملكوت المعرِّفة بالخالق إلى هذا العالم ، ولم يكن وجودها في هذا العالم لتغرق في تفاصيله المتكثرة ، وتنشغل به وتنسى رسالتها التي من أجلها حضرت!!
لقد عملت الحضارة المادية على تزييف رسالة النفس الإنسانية من خلال إشغالها بدين هذا العالم وهو المادة فعززت من التصاقها بالجسد ، وكلما ازدادت شدة الالتصاق بالجسد ضعفت العلاقة بالأصل ، حتى تصل إلى مرحلة تتشوه بها تلك الصورة فعندما يحين وقت عودتها إلى أصلها تنكره ، لأنها اكتسبت صفات من فارقت ، ومسخت صفات من هي منه ، واستناداً إلى هذا الفهم يمكننا معرفة معنى العذاب الذي تلاقيه النفس الغارقة في ماديات الحياة ، فهي موجودة لتعود لا لتبقى ، وإذا بها تعمل لتبقى لا لتعود ، وعودها حق ، وبقاؤها وهم ولدته إلفتها للمادة ، فعند حلول الموعد يستبين لها مصيبتها ، لأنها عندما تنفصل من البدن لا تدري إلى أين تتوجه؟!!! فهي لشدة تعلقها بالبدن الميت أضاعت عنوان الحياة الملكوتية فرضيت البقاء في العذاب المهين ، قال تعالى{الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيى}(الأعلى/12- 13) ، ومن المفيد أن نلتفت إلى أن الاسم والهوية هي للنفس وليس للبدن ، فما إن تغادره حتى يعود بلا هوية ، ويكون حالها عند ذاك لا هي ميتة بموت بدنها ، ولا هي حية بحياة الأصل الذي كانت صورة له ، وما أعظم هذا العذاب نستجير بالله منه .
ويستبين إضاعة الرسالة بضياع الكلمة التي من أجلها هبطت إلى هذا العالم ، فوجود البشرية في هذا العالم لإعماره بالكلمة لا لإعماره بالبناء المادي ، ولو كان كذلك لكانت العصور السالفة التي تحدثت عنها الكتب السماوية وعلى رأسها القرآن أمم مرضي عنها ، ولكننا نلحظ أن الله سبحانه على الرغم من اشتغالهم بعمارة الأرض ماديا إلا إنه ذمهم وحذر من السير على نهجهم ، قال تعالى{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(الروم/9) ، فأولئك ظلموا أنفسهم في أن جعلوها تعمل بغير الساحة التي كلفها الله سبحانه خالقها العمل بها فالحق سبحانه يقول في الحديث القدسي الشريف ـ ما معناه ـ [يا بن آدم خلقت كل شيء لأجلك وخلقتك لأجلي] ، إذن الرسالة هي أن تبين عظيم صنع الصانع والعمل على التعريف به في كل العوالم ، لا أن تنشغل بما كفله لك عاملا على تكييفه بحسب ما تحب وتشتهي وعلى وفق تصورات ينتجها الوهم لا حقيقة لها أبدا ، وحتى البناء المادي هو في حقيقته عمل الكلمة ، ولكن هذه الكلمة توضع في غير الموضع الذي أراده الله سبحانه لها ، فيكون وضعها ظلم ، وتكون ثمرتها جورا ، والكلمة لا يعطيها حقها غير الدين الذي منه انطلقت وإليه تعود ، أما الجهات الأخرى فهي بحضور الدين وعدم تهميشه إنما أوعية للكلمة تتكيف بحسب مراد الكلمة ، بينما في الحضارة المادية حصل العكس حيث تكيفت الكلمة بحسب الوعاء فضاعت في الكلمة مصداقيتها ، وفقدت روحها الحق فلم تعد أكثر من لفظ متداول على الألسنة ، لفظ خال من المعنى ـ اللهم إلا المعنى العرفي في الاستعمال ـ وإذا خلا اللفظ من المعنى عاد جثة هامدة ، ومن هنا يمكن للقارئ اللبيب أن يفهم : لماذا غابت مفردات الحياة المادية في الأدب الجميل وسحر البيان؟؟؟!!! لأن تلك المفردات ليست أكثر من جثث هامدة ترقد على السطور الروح فيها غائبة تماما ، وليست هي سوى رسم وإسم لا حياة فيها ، وإنما العمل هو لروح الكلمة لا لفظها ، والعجيب الغريب أن كثيرا من الباحثين يعزون غياب مفردات الحضارة المادية في الأدب إلى عجز الأدباء في التعاطي مع تلك المفردات التي هي من المادة وإليها ، وكذلك عجز اللغة عن مجاراة مواليد الحضارة المادية وهذا مما لاشك في أنه من المضحكات المبكيات!!! لماذا؟؟؟ لأنه لو التفت أصحاب هذا الرأي لوجدوا أن المخلوق المادي الجديد في هذه الحضارة المزعومة إنما كان كلمة تتحرك في فضاء الفكر ومن ثم صار كلمة مرسومة على الورق ومن ثم استحالت تلك الكلمة إلى مخطط هندسي مليء بالكلمات والمفردات والأوصاف ، ولكنها كلمات للاستهلاك حسب خالية من الروح ولذلك عندما يصطدم بها الأديب بروحه يجدها هياكل كلمات موميائية يحتاج إلى جهد مضاعف لبعث الحياة فيها وإدخالها في قاموسه ، ومن ثم العمل على صياغتها صياغة تكشف عن نفاذها الروحي ، وقدرتها على التكييف لا التكيف .
فالكلمة أوجدها الله سبحانه لتكون أداة تعريف وتكييف للوعاء المخلوق ، ولذلك كان الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصالحين(ع) كلمات الله ، لأن أوعيتهم كيفتها كلمة الله سبحانه فصار الوعاء صورة الكلمة الناطقة ، وليس العكس ، ومن ثم ترى على مسيرة أولئك الطاهرين(ع) مسحة الإعراض عن تفاصيل هذا العالم واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، والإعراض هنا بمعنى أنهم لم يجعلوا همهم الانشغال بتفاصيل هذا العالم بقدر ما كيفوا تلك التفاصيل لتشهد بوحدانية الغيب الواحد الأحد ، وهذا هو أعظم العمل ، ولعل البعض يسخر من هذا الكلام لانغماسه بالحياة المادية ، ولكنه لو تأمل ذلك تأملا حقيقيا لسمع صوتا بداخله يئن من وطأة تلك النازلة التي أنزلتها الحياة المادية بالبشرية ، وهذا الصوت هو صوت النفس المحتضرة التي اشتاقت إلى محلها الأرفع الذي قدمت منه ، وإذا جاز لي أن أضرب مثلا يقرب تلك المصيبة إلى النفوس والأذهان ، فحال النفس هي حال شخصية عبقرية مبدعة شغلها الشاغل تكييف الواقع على وفق التصورات التي تحملها وترى فيها الصلاح والتقدم ، وإذا بهذه الشخصية تساق إلى التجنيد الإلزامي ، إلى واقع عليها أن تتكيف فيه ، وبعد فترة من الصراع الذي دفعت خلاله أثمان من الألم والأذى تجد تلك الشخصية نفسها أمام حال من حالين ؛ إما الموت ، أو التنمذج وهو موت أشد لأنه موت للإبداع والعبقرية!!! وهذا هو حال النفس فهي حامل الإبداع وحامل رسالة الملكوت والحضارة الحقيقية ، عندما تسكن هذا العالم وتحاصرها المادة من كل مكان لا تجد غير أحد هذين الحلين : إما الموت انتحارا ، أو الموت تكيفا ، وهذا ما هو حاصل حيث بلغ حد الشيوع في العالم المادي ولا يحتاج إلى ذكر وثائق وأعداد للمنتحرين ، فضلا على أن السواد الأعظم استسلم للتكيف على وفق ما تواضع عليه أهل هذا العالم ، فأمات طاقة الإبداع وفشل في تبليغ الرسالة ، ولم يخرج من هذه الرحى الدائرة التي طحنت البشرية غير قلة من الناس ، أولئك الذين انتبهوا إلى أس الحياة وهو الدين ، وانشغلوا في البحث عن الحقيقة من خلاله ليتبين لهم عظيم الخدعة التي روجت لها الحضارة المادية ، بل ولتكبر في رؤوسهم علامة استفهام غريبة مفادها ؛ هل هذه حضارة حقا؟؟؟ فيأتيهم الجواب الإلهي بقوله عز وجل{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(يونس/24) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى