بسم الله الرحمن الرحيم
ليس مصادفة ولا إبداع خيالي لفنان ما عندما تتصدر صور الحكام الدكتاتوريين واجهات المحاكم وهم يمسكون ميزان العدالة ، ذاك أن تلك الجداريات تعبر عن أن البشرية لا تستطيع التنصل عن فطرتها في ضرورة وجود شخص قائم على ميزان العدالة
وهذا الحال إن دل على شيء إنما يدل على أن في الفطرة البشرية ثابت لا يتغير مفاده ؛ إن الميزان ركن من أركان الحق وبه يقوم مشروع العدل ، والقائم عليه ركن ثان من أركان ذلك الثابت ، وينبغي أن يكون هذا القائم منصب من الحق العادل وهو الله سبحانه وهذا هو الركن الثالث . أما الركن الأول فمن دونه كل شيء سيسقط ، والثاني لابد منه لأنه يستحيل أن يكون كل الناس قائمون على الميزان فلو كانوا كذلك لمن سيزنون؟! وعلى من يحققون العدالة؟! وكلا الركنين لا يستبين الامتحان الواقع بهما ، مع أن الامتحان مجملا هو واقع بالعدالة بكل أركانها لأنها ضرورة بها تقوم الحياة ولولاها لفسد كل شيء ، ويكون الفساد ظاهرا جليا واضحا لا ينكره غير الجاحدين .
أما الامتحان البيِّن فهو واقع في الركن الثالث وهو شخص القائم المعين من الله سبحانه على الميزان ، وهنا فشلت عموم البشرية في هذا الامتحان لأن جنبته الدينية كانت هي الأصل وجنبته الدنيوية كانت فرعا على ذلك الأصل الديني ، ولأن الأصل الديني في معنى من معانيه هو تعلق الفرد بالواحد المطلق على وفق منهج عبادي هو السبيل إليه ، وتمسكا بدليل معين منه سبحانه قادر على السير على حسب الخطة الإلهية للوصول إليه سبحانه وبلوغ ساحة رضاه ، وهذا ما أقره الله سبحانه وأثبته في فطرة الناس جميعا ، ولكن أكثر الناس استأنسوا بالجانب الدنيوي فيهم فمالوا إليه لأنه بتصورهم هو الأقرب إليهم ، والسماء بعيدة عنهم ومن ثم فخيارها كذلك هو بعيد عنهم ، فمالوا إلى أولئك الذين وعدوهم بالتخفف من سلطة الدين حتى التحرر منها ، والعمل على تقوية جانب السلطة الدنيوية وإشاعة الرفاه المادي والسعادة فيها ، ولاشك في أن هذه الطروحات تتناغم تماما مع الجانب المادي الظلماني في النفس الإنسانية لأنه جانب لا يتطلب الميل إليه جهداً ولا عملا حقيقيا يكون معارضا للجانب الشهوي (الغريزي) للإنسان ، من جانب ، ومن جانب آخر يغري الفرد بالعمل على تركيز نظره على ذاته والانهماك في (تحقيقها) ، وتوسل كل السبل لذلك ، ولذا يلحظ على النظام المعرفي الدنيوي لا يقر بوحدانية الأشياء ولا يعمل عليها بل تراه دوما ساعيا نحو التشظي ما استطاع إلى ذلك سبيلا على الرغم من أن الناس عموما على تعدد شرائعهم السماوية يشعرون بفطرتهم أنهم يستندون إلى ثابت واحد لا يتغير ولا يتبدل ، وقانون واحد يحكمهم منذ آدم(ع) إلى يومنا هذا ، بل إلى قيام يوم الدين ، والى أن يرث الله سبحانه الأرض وما عليها ، وهذا الثابت القانوني هو ؛ إن القائم على ميزان العدالة لابد أن يكون منصبا من الله سبحانه لأنه عالم بمراد الحق العادل ، ومقيم لكلمته وعامل بمنهاجه ، وكل قائم غيره لا يكون عمله كذلك مطلقا ولو اجتهد في تحقيق ذلك غاية الاجتهاد ، لأن مدار الأمر ليس في الجهد المبذول من ذلك الفرد القائم على الميزان ، بل مدار الأمر في التكليف والقيام بالتكليف ، فالمنصب من الله سبحانه هو مكلف بهذا الأمر وعليه تكليفه ولذلك يراه الناس شديدا في طلب ذلك لأنه تكليفه الذي يعني منعه من القيام به حرمانه من أداء رسالته المكلف بها ومن ثم غمط إنسانيته حقها ، وهو يستشعر الخوف الحقيقي من جانب التقصير في أداء التكليف أكبر من استشعاره الخوف من الواقع الذي هو فيه ، بل هو لا يستشعر الخوف من ذلك الواقع مطلقا وذلك لتمام استشعاره الخوف من الذي كلفه وهو الله سبحانه فيلحظه الناس شديدا ومجتهدا في أداء تكليفه ورسالته على الرغم من عناد الواقع له ، فتراه يواجه التيار ولو كان بمفرده أو قل ناصروه ، فهمه الأول والأخير أداء تكليفه على وفق النهج الذي أراده الله سبحانه منه ، وهناك ملحظ آخر يكون ثمرة التمسك بالتكليف ذاك هو ؛ إن هذا المكلف بالقيام على الميزان ناظر إلى تحقيق العدالة من المنظور الإلهي لا من المنظور البشري فتراه غير معني تمام بسخط الخاصة وكبار القوم ووجهائهم ، والخاصة يسخطون دوما من الميزان الإلهي لأنه يفضح المقاييس الفاسدة التي أضحوا بها خاصة وانمازوا بها عن بقية خلقه ، وإنما الناس كلهم على الميزان واحد ولا فضل لأحد إلا بالتقوى ولزوم سبيل الله سبحانه والعمل بمنهجه ، وهذه التقوى لا ظهور لها إلا في العالم الأخروي أما هنا فهي لا ترى ، وإنما أثرها يستبين في تواضع المتقي وعمله المستمر كي يكون خادما لا سيداً ، والخدمة التي يعمل استنادا لها ذلك المتقي يجتهد دوما في أن لا تكون سببا في جعله محط نظر الناس في الدنيا ، وليس كما يعمل الطواغيت اليوم يطلقون على أنفسهم وصف (خادم) وهم يتصرفون سادة وآلهة للناس تعبد من دون الله جل وعلا .
لقد كان المشروع البشري دوما منذ نزوله إلى الأرض هو حرب معلنة على خيار الله سبحانه واختياره ، منذ الحادثة الأولى التي سجلت أول جريمة في هذا المضمار عندما قتل قابيل(لعنه الله) هابيل(عليه السلام) استئثاراً بالقيام على الميزان ، وإعلاناً منه لرفض الاختيار الإلهي ، على الرغم من أن الله سبحانه وضح قانونه وما يحفظ للناس صلاحهم ورضاه سبحانه بأوضح بيان حيث قال جل وعلا{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(القصص/68) ، فمن يتمرد على قانون الله سبحانه هو مشرك صراحة وإشراكه بأن جعل له قولا وأمراً قبال قول الله سبحانه وأمره ، وجعل من أمره وقوله نظيراً لأمر الله سبحانه وقوله ، وهو بذلك فارق سبيل التوحيد قولا وعملا وإن ادعى التمسك بهما ، كما يفعل أصحاب الديانات السماوية الثلاثة اليوم ، فهم يصرحون أنهم موحدون ولكنهم على الواقع العملي هم مشركون ، وشركهم في غالب الأحيان يصل إلى حد تغييب الشريك تماما ، وحجبه من معادلة العمل وبذلك يكون لا قول إلا قولهم ، ولا أمر إلا أمرهم ، وحالهم تلك جعلتهم يصلون إلى المرحلة الموصوفة بـ(امتلاء الأرض ظلما وجورا) ، لأنهم بفعلهم هذا عطلوا تماما القانون الإلهي ، ولذلك تلحظون اليوم في آخر طرح بشري ، وآخر تكييف بشري لمسألة الحكم وهو المشروع الديمقراطي تم فيه تغييب شخص القائم على الميزان ، وتصوير الميزان كأنه قائم في الهواء!!! وهذا أمر يدعو للتساؤل فعلا فلماذا الديمقراطية غيبت شخص القائم على الميزان ، وهي تعلم بضرورة وجود قائم؟؟!! والطرح الديمقراطي اليوم يقول : لم تعد هناك ضرورة للقاعدة التي وضعها أمير المؤمنين(ص) القائلة : لابد للناس من أمير براً كان أو فاجراً ، ذاك أن مقولة أمير المؤمنين(ص) تجعل من ظهور شخص القائم بغض النظر عن هويته أمر لازم وضرورة ، ومن ثم سيجعل هذا الظهور إمكان قيام البرّ مقام الفاجر ممكنا على مستوى حركة الواقع البشري ، بمعنى أن أمير المؤمنين(ص) أراد ـ بحسب ما يفهم من قوله الشريف ـ أن يقيم الثابت وهو وجود شخص القائم ظاهرا معلنا ، واختبار المحكومين ، وابتلاء عقولهم ؛ إلى من سيميلون؟؟ هل سيميلون بمقتضى فطرتهم إلى الأمير البرّ ، فيكونون بذلك أرقى من الملائكة ، أو سيميلون بمقتضى شهوتهم إلى الأمير الفاجر ، فيكونون بذلك أدنى من البهائم؟؟!! ولقد التفت سدنة الديمقراطية إلى ذلك ووجدوا أن قيام شخص على الميزان سيجعل الناس دائما تتطلع إلى ذلك القائم البرّ المنقذ ، فوجود قائم وإن كان مزيفاً فاجراً فهو سيبقي الأمل قويا وحيا ونابضا في نفوس الناس من قيام صاحب الميزان الحق عليه ، ولو كان ذلك على مستوى التفكير ، وليس العمل .
لقد عمل المشروع البشري (القابيلي) للوصول إلى تلك المرحلة على طمس الفطرة الإنسانية رويدا رويدا ، وقد عمل على ذلك بتؤدة واجتهاد نادرين لو أنه أنفقهما في سبيل الحق لكانت اليوم البشرية تعيش مقام إنسانيتها التي جعلها الله سبحانه لها ، ولكن وياللأسف أن هذا الصبر وهذا الجهد الكبير أنفقا في الاتجاه الذي حوَّل الإنسان إلى (مسخ) إنسان ، فليس له نصيب اليوم من الإنسانية سوى صورة اللحم والدم ، أما حقيقته فهي بهيمية بامتياز ، تماما كما وصف المصداق الأمثل للإنسان الكامل التام أمير المؤمنين علي(ص) : [الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان وذلك ميت الأحياء] ، ولذلك ملامح البهيمية على البشرية اليوم واضحة وضوح الشمس ، فكما أن شريعة الغاب قائمة على قاعدة مفتعلة تقول : (البقاء للأقوى) وعلى الصراع والقتل والقتال ، اليوم العالم كله يعمل على وفق قاعدة (البقاء للأقوى) ، مع إن الله سبحانه شرع للناس قانونا هو (البقاء للأصلح) ، ومن خلال الواقع يستبين مدى الفارق بين الأمرين ؛ الأمر الإلهي الذي فيه صلاح للجنس البشري كله من دون استثناء لأحد ، والأمر البشري الذي فيه هلاك للجميع فليس هناك أقوى فالكل في معادلة الواقع ضعيف مفتقر ، والقوى الغاشمة ما هي إلا خدعة ، وسحر ما يفتأ أن ينقلب على الساحر والدليل يتحصل اليوم من تلك المرحلة التي وصلت فيها الديمقراطية إلى جعل ميزان العدالة يسبح في الفضاء ، بمعنى لا يوجد قائم عليه ، وهذا يدل فيما يدل على أن الميزان حقيقة ثابتة ، ولكن مشروع الديمقراطية الذي ينبغي أن يكون قائما عليه ـ بحسب ما تطرحه الديمقراطية ـ هو عدم لا وجود له ، ولذلك فالحقيقة تسبح في الفضاء ، وهذا له دلالة مهمة للمؤمنين بالمنهج الإلهي العظيم ، وهو أن الديمقراطية تنازلت عن الإمساك بالميزان وهو ثابت الحق ، ولذلك فصاحبه الحق هو من يقوم به الآن وتغييب شخصه إنما يدل على أن الديمقراطية مشروع أعمى لا يرى حيث أنه أضاع الميزان وتركه ، وتوهم أنه يسبح في الفضاء بينما الحقيقة هي ؛ إنه وصل إلى يد صاحبه ، ولا تتطلب رؤيته شاخصا قائما عليه إلا التفات الناس إلى الوجهة الصحيحة ، المقابلة لقبلتهم اليوم وهي الديمقراطية ، ولذلك الديمقراطية اليوم بنفسها أعلنت فشل مشروعها عندما تركت القيام على الميزان ، وجعلت من العدالة تسبح في الفضاء ، حيث أن العقل يقضي بأن لا قدرة على الميزان أن يقوم بذاته في هذا العالم ولابد له من قائم عليه ، هكذا هي فطرة الله الخالق التي فطر الناس كلهم عليها ، قال تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(الروم/30) .
لاشك في أن الطرح الديمقراطي سرّع من سقوط المشروع البشري في الحكم من حيث لا يريد ، حيث أن الحكومات الديكتاتورية كانت عائقا كبيراً أمام حكومة الحق ، لأن تلك الحكومات الديكتاتورية لا تتورع عن إراقة الدماء حفاظا على بقائها ولذلك فهي عندما تنهار ، تنهار انهياراً كلياً ، ولذلك حاول الفكر البشري معالجة ذلك بابتداع الديمقراطية التي حولت من منصب القيادة إلى منصب وظيفي كمناصب الدولة الأخرى ، ولذلك وجدت أن شخص القائد لا يعد ضرورة فقامت بإعدامه تماما ، وتركت الميزان بلا راع ، ولذلك يرى الناس بأم أعينهم أن الديمقراطية في المصائب تبدو بلهاء عاجزة لأنه لا أحد فيها يتصدى للمسؤولية ، أو علاج تلك المصيبة ، ذلك أن كل واحد في المشروع الديمقراطي هو موظف وخلا ، وعلاقة الموظف مع منصبه علاقة الأجير مع الأجر ، فعينه دائما على ما يتحصله من المنصب ، أما المسؤولية فهو لا يتحملها ، ولذلك غاية ما يحصل عند حصول الكوارث والمصائب ـ بشرعة الديمقراطية ـ أن تقدم الحكومات استقالتها وتتقاعد من منصبها ليأتي غيرها ، على وفق صناديق الاقتراع ، وتلك معالجة غريبة واقعا ، فالمصيبة لا أحد يتصدى لمعالجتها ، ومن وقعت على رؤوسهم يلعقون جراحهم ويتصارخون ولا سامع لصرخاتهم ، فالديمقراطية لا تعالج المريض وإنما تذهب لاستبدال ثيابه ، وهذا من عجيب المعالجة ، بل وهو حل خبيث سيجعل من المريض في النهاية يستسلم للمرض ويتوهم أن الصحة ليست سوى وهم ، والواقع هو المرض ، لذا عليه أن يتأقلم مع عملية تبديل الثياب!!! فالعلاج أمل قد لا يكون ، والطبيب خرافة كطائر العنقاء والخل الوفي ، والصحة والعافية أسطورة من الأساطير ، ولا واقع في الديمقراطية سوى المرض ، وليس العلاج سوى استبدال الثياب ، وميزان العدالة يسبح في الفضاء ، فلا هو واقع ينتفع به ، ولا هو خيال يتخلص منه بمباشرة الواقع .