عمر والاجتهاد في النص
الاربعاء, 04 أغسطس 2010
عبدالرحمن الخطيب .. باحث في الشؤون الإسلامية.
كان لعمر بن الخطاب، رضي اللّـه عنه، دور كبير في اتخاذ القرار في تأسيس الدولة الإسلامية، ليس فقط في ما لم ينزل فيه وحي، بل في ما نزل فيه وحي. وفي أكثر من مرة كان الوحي يتفق مع موقف عمر، رضي اللّـه عنه. منها، على سبيل المثال: آية الحجاب، وموضوع الاستغفار والصلاة على عبداللّـه بن أبيّ، وموضوع أسرى غزوة بدر.
كان، رضي اللّـه عنه، يعتد برأيه ويصر عليه، على رغم مخالفته لنص صريح في الكتاب، مثل: موضوع سهم المؤلفة قلوبهم، والزواج من الكتابية، ومسألة التيمم للصلاة عند غياب الماء، وموقفه من صلاة الاستسقاء، ومسألة الطلاق بالثلاث.
وبقدر ما كان عمر، رضي اللّـه عنه، يوسّع مجال الرأي، فقد كان يضبط بدقة الحدود المرجعية للنص؛ فلم يكن يعترف بسلطة نصية سوى سلطة الكتاب، وقد ظهر ذلك جلياً في موقفه في منع الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، من أن يكتب في مرضه الذي توفي فيه، كتاباً للمسلمين غير القرآن الكريم. وقد أوردت كتب الصحاح الكثير من الروايات التي تشير إلى رفض عمر، رضي اللّـه عنه، الاحتكام إلى نص موازٍ لنص الوحي، وإن كان صاحبه رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم. ومن تلك الروايات عن ابن عباس، رضي اللّـه عنه، قال: «لما حضرت رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، الوفاة، وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب، فقال الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم: هلمّ، أكتب كتاباً، لن تضلوا بعده. قال عمر: إن رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّـه». ويعلّق ابن عباس، رضي اللّـه عنه، قائلاً: «الرزيّة كل الرزيّة ما حال بين رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم». يقصد تصدي عمر، رضي اللّـه عنه، لمن أراد لكتاب خاص عن الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، أن يكون.
وأُثر عن عمر، رضي اللّـه عنه، أنه كلما تحدث عما ينبغي للمسلمين الالتزام به، اقتصر على ذكر القرآن الكريم. فإثر وفاة الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، ومبايعة أبي بكر، رضي اللّـه عنه، ألقى خطبة أوصى فيها بالاعتصام بكتاب اللّـه وحده، قال: «إن اللّـه أبقى فيكم كتابه الذي هدى به اللّـه رسوله، صلى اللّـه عليه وسلم، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه اللّـه». وقد رغب عمر، رضي اللّـه عنه، عن ذلك خشية أن يتحول التأسي إلى إجبار، والسنة إلى فرض؛ مما يخلق مرجعية نصية أخرى مناظرة للقرآن الكريم. فبقدر ما اعتنى بجمع القرآن مكتوباً، فقد نهى عن تدوين السنن. يقول ابن سعد في (الطبقات): «أراد عمر بن الخطاب أن يكتب السنن، فاستخار اللّـه شهراً، ثم أصبح وقد عزم له، فقال: ذكرت قوماً كتبوا كتاباً فأقبلوا عليه وتركوا كتاب اللّـه».
لم يكتفِ عمر، رضي اللّـه عنه، بمنع تدوين الحديث الشريف، بل نهى الصحابة عن الانتصاب لروايته في الحلقات. وقد جاءت أصداء هذا النهي في بعض شكاوى المقبلين إلى المدينة المنورة في عهده، رضي اللّـه عنه، يطلبون علماً بالسنن، سواء أكانت أقوالاً أم أفعالاً. ومن هذه الشكاوى التي أوردها ابن سعد في «الطبقات» قول أحدهم: «ما لكم أصحاب رسول اللّـه، نأتيكم من البعد نرجو عنكم الخبر أن تعلّمونا، فإذا أتيناكم استخففتم أمرنا». حتى أن أبيّ بن كعب عزم على مخالفة أمر عمر، رضي اللّـه عنه؛ فاستجاب لأحد طالبي أخبار سنن الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، وحدد يوم الجمعة موعداً معه، وقال: «اللّـهم إني أعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلمن بما سمعت من رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، لا أخاف فيه لومة لائم».
كان عمر، رضي اللّـه عنه، حازماً في منعه الصحابة من التحدث في أقوال رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، إذ عاقب من خالف أمره، مثلما فعل مع أبي الدرداء، وأبي ذر الغفاري، وعبداللّـه بن مسعود. وكان الكثير من الصحابة مع رأي عمر، رضي اللّـه عنه، في عدم التحدث بحديث رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، منهم صهيب بن سنان، الذي كان يقول: «هلموا نحدثكم عن مغازينا، أما أن أقول: قال رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، فلا». وعمران بن الحصين، الذي قال: «واللّـه لو أردت لحدثت عن رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، يومين متتابعين، فإني سمعت كما سمعوا، وشاهدت كما شاهدوا، ولكنهم يحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يُشبّه لي كما شبّه لهم».
كان عمر، رضي اللّـه عنه، يرفض الحديث عن رسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، لرفضه تحول الحديث الشريف إلى سلطة، نتيجة التحوير المتعمد الذي قد يدخله بعض الرواة على أخبار الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، لتحقيق غايات شخصية، أو فئوية، وهذا ما حصل بالفعل في خلافته، رضي اللّـه عنه، مع العباس عم الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، إذ كانت بينهما خلافات؛ فكان العباس يحتمي بقول الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، منها حادثة توسيع المسجد ليستوعب الأعداد المتزايدة من المصلين، فقد قام عمر، رضي اللّـه عنه، بشراء ما حول المسجد النبوي من الدور، باستثناء حجرات أمهات المؤمنين، ودار العباس، لأنه رفض تسليمها أو بيعها، وحين قرر عمر، رضي اللّـه عنه، افتكاكها من أجل مصلحة المسلمين، اعترض العباس، واحتج بحديث لرسول اللّـه، صلى اللّـه عليه وسلم، ينهى فيه عن توسعة بيوت اللّـه باغتصاب ما حولها من الأراضي، فرفض عمر، رضي اللّـه عنه، حديث الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم؛ لأنه خبر منفرد.
يتضح من مواقفه، رضي اللّـه عنه، عدم اعتقاده بفرض العمل بأحاديث الرسول، صلى اللّـه عليه وسلم، وكان لا يرى أنه لا يجوز الاجتهاد مع النص، فقد اجتهد عمر، رضي اللّـه عنه، في كلتا الحالتين؛ لأنه رأى، بسعة أفقه، أن بعض المسائل تحتاج إلى أحكام جديدة تبعاً لواقع جديد، كان رضي اللّـه عنه، لا يأخذ بالنصوص بقدر ما يأخذ بمقاصد النصوص.
(صحيفة الصراط المستقيم/عدد 20/سنة 2 في 07/12/2010 – 1محرم 1432هـ ق)