أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أغلب المهاجرين والاَنصار بالتوجه إلى غزو الروم تحت إمرة أُسامة بن زيد ، وكان على رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرون [ الكامل في التأريخ ج2ص317 . وقد صرح بدخول ابي بكر في البعث اكثر المؤرخين ، منهم ابن سعد في طبقاته : ( 4 : 46 ) و( 4 : 136 ) وابن عساكر في التهذيب ( 2 : 391 ) و( 3 : 215 ) وصاحب كنز العمال ( 5 : 312 ) . وصاحب تاريخ الخميس ( 2 : 172 ) واليعقوبي في تاريخه ( 2 : 93 ) وابن ابي الحديد ( 2 : 21 ) ومحمد حسين هيكل من المتأخرين في حياة محمد ( 467 ) وغيرهم مما لا يحصى . ولم نجد تصريحا ولا تلويحا لاحد من المؤرخين بخروجه من جيش اسامة . وانما يكتفي بعضهم بقول وجوه المهاجرين وما يؤدي هذا المعنى بدون تصريح باسم أحد ، ولكن بعضهم المؤلفين الجدليين حاول انكار دخوله من غير حجة ظاهرة ].
فطعنوا في إمارته وتثاقلوا حتى قام بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيباً وقال : ( إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله لقد كان خليقاً للاِمارة ([صحيح البخاري 5 : 179 . وآفة أصحاب الحديث : 12 . والكامل في التأريخ 2 : 317 . وبنحوه في الطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 190 . وتاريخ اليعقوبي 2 : 112 ].
وتثاقل كثير من الصحابة ولم يلتحقوا بأسامة ، وعصوا أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أغضبوه
فأمرهم ثانية وثالثة حتى لعن المتخلفين وقال صلى الله عليه وآله وسلم : « جهزوا جيش أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 29 . وشرح نهج البلاغة 6 : 52 ).
وفي رواية أنّه قال : « جهزوا جيش أُسامة ، أنفذوا جيش أُسامة ، أرسلوا بعث أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » (آفة أصحاب الحديث : 12).
وعند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاد أُسامة ومعه الجيش ينتظرون مصيره صلى الله عليه وآله وسلم وحينما علم بهم أمر أُسامة بالخروج وتعجيل النفوذ وجعل يقول : « أنفذوا بعث أُسامة » ويكرّر ذلك [صحيح مسلم 8 : 168 باب نزول الفتن ].
ولقد كان اعتراضهم على إمرته ثم اعتذارهم عن الخروج معه بمرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاولةً منهم للتغطية على المرض الكامن في قلوبهم !!
ولنا أن نتساءل:
اولا ـ لماذا تسند قيادة اعظم جيش اسلامي يومئذ ، في ذلك الظرف الدقيق الذي وصفناه ، في مرض النبي ، إلى شاب يافع لم يتجاوز العشرين من سنيه على جميع التقادير، وهو لم يجرب الحروب بعد وبالاصح لم تسند إليه قيادة من هذا النوع ولا من نوع آخر . والجيش معبأ لجهاد اقوى اعداء الاسلام في ذلك الموقع البعيد عن العاصمة الاسلامية .
ثانيا ـ أن يؤمر هذا الفتى ، مع ذلك ، على شيوخ المسلمين الذين فيهم قواد الحروب ورؤساء القبائل واصحاب النبي الذين يرون لانفسهم مقاما اسمى ومنزلة رفيعة . ويرشحون انفسهم لمنصب هو أعظم كثيرا من منصب قائدهم الصغير هذا .
ثالثا ـ ان يتباطأ المسلمون عن الالتحاق بهذا البعث بالرغم على اصرار النبي وتشديده النكير على المتخلفين ولعنه اياهم .
ويكفي ان نعرف ان البعث وقع قبيل شكاته أو في أولها وقد استدامت علته اربعة عشر يوما ( على اوسط التقادير ) . وفي كل هذه المدة الطويلة يثاقل القوم عن الخروج . وقد عسكر قائدهم الفتى بالجرف ، وهو يبعد عن المدينة بفرسخ واحد ( بعد ان عقد النبي له الراية بيده الشريفة ) ينتظر جيشه المتمرد ان يجتمع إليه ، فتخلق الاشاعات عن حال النبي فيرجع اسامة إلى المدينة برايته فيركزها على باب النبي ، ولكن الرسول في كل مرة يأمره بالعودة ويحث القوم على الالتحاق به . ولكنه في اليوم الاخير يرجع مرتين في المرة الاولى يأمره النبي بالسير قائلا : ( اغد على بركة الله تعالى ) فيودعه ويخرج ، وفي المرة الثانية يرجع ومعه عمر وأبو عبيدة فيجد النبي يجود بنفسه ، ثم يلتحق بالرفيق الاعلى .
فماذا دهى المسلمين حتى خالفوا الصريح من أمر النبي هذه المدة الطويلة من غير حياء منه ولا خجل ولا خوف من الله ورسوله وتوطنوا على غضبه ولعنهم جهارا ، أتراهم استضعفوا النبي وهو مريض شاك فتمردوا عليه ، أم ماذا ؟
رابعا ـ ان ينكر هؤلاء المسلمون على نبيهم تأميره لهذا الفتى ، ثم لا يرتدعون بعد ان نهاهم عن ذلك . وليس لهم على كل حال حق هذا الانكار إذا كانوا حقا قد تغذوا بتعاليم الاسلام وعرفوا ان النبي لا ينطق عن الهوى وما كان لهم الخيرة .
خامسا ـ ان النبي قد علم بقرب أجله ويعلم ان الفتن قد أقبلت كقطع الليل المظلم ، فكيف يبعد جيشه وقوته عن العاصمة ومركز الدعوة ، بل كيف يخلي المدينة من شيوخ المهاجرين والانصار وزعمائهم واهل الحل والعقد منهم .
فلا بد أن يكون كل ذلك لامر ما عظيم ، اكثر من هذه الظواهر التي يتصورها الناس .
فهل نجد حلا لهذه المشاكل تطمئن إليه النفس الحرة ، بعد عرفاننا للنبي وعظمته وانه لا يفعل ولا يقول إلا عن وحي وسر إلهي .
الحق أننا نستدل من فعل النبي صلى الله عليه وآله:
أولا ـ أن يهيئ المسلمين لقبول « قاعدة الكفاية » في ولاية امورهم ، من ناحية عملية ، فليست الشهرة ولا تقدم العمر هما الاساس لاستحقاق الامارة والولاية ، فإذا قال عن اسامة مؤكدا جدارته بالقسم ولام التأكيد : وايم الله ان كان لخليقا للامارة ـ يعني زيدا ـ وان ابنه لخليق للامارة .
وإذا علمنا ان علي بن ابي طالب هو المهيأ لولاية امور المسلمين بعد النبي ـ على فرض انه لم يكن هو المنصوص عليه ، أفلا يثبت لنا ان قضية اسامة كانت لقبول الناس امارة علي على صغر سنه يومئذ بالقياس إلى وجوه المسلمين وكان إذ ذاك لا يتجاوز الثلاثين ؟
ثانيا ـ اراد (ص) ان يبعد عن المدينة ساعة وفاته من يطمع في الخلافة خشية ان يزيحوها عن صاحبها الذي نصبه لها في الخلافة . وقد ثبت عنه انه كان يتوجس خيفة على اهل بيته ولا سيما على علي ، فوصفهم بأنهم المظلومون من بعده . ولذا نراه ادخل في هذا الجيش كل شخصية معروفة تتطاول إلى الرئاسة ، ولم يدخل فيه عليا ولا احدا ممن يميل إليه الذين كانوا له بعد ذلك شيعة ووافقوه على ترك البيعة لابي بكر ، فلم يذكر واحد منهم في البعث ، وهم ليسوا اولئك النكرات الذين لا يذكرون .
وهذا ما يفسر تباطؤ القوم عن البعث وعرقلتهم له بخلق الاشاعات في المعسكر عن وفاة الرسول ، مع اصراره « ص » ذلك الاصرار العظيم . ولم يمكنهم ان يصرحوا بما في نفوسهم ، فاعتذروا بصغر قائدهم ، وفي هذا كل معنى التهجين لرأي النبي وعصيان أمره الصريح .
ثالثا ـ ان يقلل من نزوع المتوثبين للخلافة ، ليقيم الحجة لهم وللناس بأن من يكون مأمورا طائعا لشاب يافع ولا يصلح لإمارة غزوة مؤقتة كيف يصلح لذلك الامر العظيم وهو ولاية امور جميع المسلمين العامة ، وهي في مقام النبوة وصاحبها اولى بالمؤمنين من انفسهم .
(صحيفة الصراط المستقيم/ العدد 25/ السنة الثانية/في 11/01/2011-6 صفر1432هـ ق)