زاوية العقائد الدينية

الإنسانية بين عبادة الله وعبادة الذات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليماً

خُلق الإنسان مجبولاً على حب ذاته، وهذا الحب هو أمر فطري، يندفع اليه الإنسان وكل حيوان بشكل غريزي بدون أي تعلم، ولا يتصور أحد أن هذا الحب الفطري فيه منقصة أو فساد، بل هو السبيل الوحيد الى نجاة الفرد والمجتمع دنيا وآخرة، لأن حب الإنسان لنفسه هو هبة وإلهام إلهي، والله سبحانه وتعالى لا يوجد ولا يخلق الفساد ابتداءً، فكل أمر فطري مغروس في ذات الإنسان، هو خير وصلاح. 

ولكن بما أن الغالب على الإنسان هو الاستئناس بالقشور وظواهر الأشياء، نجده منهمكاً في تحصيل ما ينفعه وابعاد ما يضره، وبصورة عشوائية، بحيث يظن ما يضره نفعاً له، وما ينفعه ضراً له، لأنه قد قَصَرَ نظره على ظاهر وحاظر الأمور، وغفل أو تغافل عن حقائقها وعواقبها.

ولذلك قد يتوهم بعض الناس أن حقيقة حب النفس أو الذات هو فساد وشر في حقيقته، وهذا تصور مجانب للحقيقة تماماً، وما أوقع الناس بهذا التصور الخاطئ، هو حكمهم على هذا الأمر من خلال أفعال البشر المنبثقة عن حب الذات، والصواب عليهم أن يفرقوا بين حقيقة حب الذات وبين الأعمال المنبثقة عن حب الذات، فالإنسان قد يُوفق في اختيار ما ينفع ذاته، وقد يخطأ فيختار ما يضر ذاته وهو يحسب أنه ينفعها ويكملها، وهذا هو الغالب على الناس، وهو ما أدى الى فساد الفرد والمجتمععلى حد سواء، وإلا فمصلحة الفرد وصلاح ذاته لا يمكن أن
تتقاطع مع مصلحة المجتمع الإنساني وصلاحه أبداً.

وبما أن الإنسان خُلق عاجزاً عن معرفة جميع حقائق الأشياء وعواقبها، كان في أمس الحاجة الى تعليم من يَعلم حقائق الأشياء وبواطنها وعواقبها، وهو الله جل جلاله، وحينئذ عليه أن يلتزم حرفياً بما يمليه عليه الشرع الإلهي، حتى يُقولِب [حب الذات] في قالبه الصحيح ليعود النفع عليه أولاً وعلى المجتمع ثانياً.

فالطفل الصغير يندفع بحب الذات الى جلب ما ينفعه وابعاد ما يضره، ولكننا نراه يُبعِد الدواء الذي ينفعه ويضج منه صارخاً، وقد يتناول السم القاتل وهو يظن أنه شراباً نافعاً، ونراه لا يرتدع عن مقاربة النار حتى يكتوي بها أو يمسه لهبها، ولذلك يحتاج الطفل الى رعاية الأبوين لأنهم أعرف منه في ما يضره وما ينفعه، ولو تُرِك واختياره فقد يموت في تجربة واحدة بحرق أو سم أو سقوط من مرتفع … الخ، بل حتى الأبوين لا يستغنيان عن تعليم الله تعالى في رعاية وتربية أطفالهما، فهم لا يعلمان إلا بعض الأمور البيِّنة، ولذلك نجد الشارع المقدس قد تدخل في بيان ما ينفع الطفل حتى وهو في صلب أبيه وفي رحم أمه وفي أول يوم يولد فيه وأول ما ينبغي اسماعه له، وما ينبغي للأم أن تأكل في نفاسها، وكم مدة رضاعة الطفل، وكيفية التعامل معه في جميع مراحل حياته.

إذن فما نراه من شر وفساد سببه جهل الناس بما ينفعهم وما يضرهم، وتركهم للتعاليم الإلهية في ذلك، لا أن سببه حب النفس والذات، ولو علم الإنسان حقيقة ما ينفعه وما يضره، لتبين له أن الأمر عكس ما اعتاد عليه الناس تماماً، بمعنى أن ما يظنه الناس نفعاً لهم هو الهلاك بعينه، وما يظنونه شراً لهم هو الخير العميم، ولتبين له أن أغلب الناس لم يخرجوا من دائرة الذات الحيوانية البهيمية.

والحقيقة أن حب الذات في حقيقته، يفرض على الإنسان أن ينكر ذاته، ويتوجه الى ربه ويتقيد بما شرَّع الله له في جميع أموره الدنيوية والأخروية، لأن من يعتقد أن الحياة الدنيا ممر والآخرة مستقر، وأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، كيف يحرص على اكتناز زخارف الدنيا، ويغفل أو يتغافل عن بناء وتمهيد مستقره الذي سيخلد فيه الى أبد الآبدين ؟! 

فمن أحب الحياة لنفسه، فهي ليست الحياة الدنيا، بل هي الحياة الآخرة، كما يقول الله تعالى:

{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت:64.

نعم ..[لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]، ولكنهم لا يعلمون، فيحسبون أن الحياة الحقيقية هي الدنيا، ولذلك نجدهم يخربون آخرتهم في سبيل الحفاظ على دنياهم، وفي الحقيقة أنهم خسروا حتى الحياة الدنيا، لأنه لا قيمة لأيام الدنيا بدون طاعة الله تعالى والتلذذ بعبادته ومناجاته، والعمل في نشر وتطبيق ارادته في الأرض، ولو كانت السعادة بالمأكل والمشرب، لفازت البهائم بالحظ الأوفر.

وبهذا يتبين لنا شيء من تعريف الإمام الصادق (ع) للعقل عندما سُئل عنه، حيث قال:

[ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسِبَتْ به الجنان]، نعم فالعاقل لا يرى لنفسه كمالاً سوى طاعة وعبادة ربه، واكتساب الجنة ورضوان الله، وتجنب سخطه والنار، فعن أمير المؤمنين (ع) انه قال: [وما شر بشر بعده الجنة وما خير بخير بعده النار، وكل نعيم دون الجنة محقور وكل بلاء دون النار عافية].

إذن فحب الذات الحقيقي لا يتحقق إلا بمعرفة الله تعالى وطاعته، لأنه هو كمال النفس الحقيقي، وكلما التفت الإنسان الى ذاته غفل عن ربه وظلم نفسه حتى يكون كالأنعام بل أضل سبيلاً، وكلما غفل عن نفسه وتوجه الى ربه، ارتقى في ملكوت السماوات حتى يغبطه الملائكة المقربون، وكلما فتش الإنسان في نفسه بصدق، يقف على ظلمات الأنا والجهل التي هي أسرع هلاكاً للإنسان من النار في الهشيم، فيستعين بالله على رفعها حتى يمتلئ الانسان نوراً، فيضيء الطريق لنفسه ولغيره، بل سيتعب ليرتاح غيره، وسيجوع ليشبع غيره، وسيسهر لينام غيره، لأن كل ذلك وغيره مما أمر به الله عباده، وجعله كمالاً للانسان وكل بحسبه، فالخاسر من خسر حظه من هذا الكمال، قال تعالى: ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).

(صحيفة الصراط المستقيم/ العدد 22/ السنة الثانية/في 21/12/2010- 15 محرم 1432)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى