زاوية الأبحاث

مقال في التوحيد

التوحيد

إن الكلام في الوحدانية يقتضي منا أن نعرف أن لهذه الوحدانية شقين : الأول ؛ وجودي قهري ، وفي هذا الشق تتساوى كل المخلوقات سواء كانت إنسانا أو حيوانا أو نباتا أو جمادا أو أي خلق من خلق الله ، وفي هذا الشق لا تفاضل ولا تمايز ولا اختبار ولا امتحان ، لأن في هذا الشق كل الموجودات دالة على موجدها ،

 

ولذا فالذين يعملون على نظرية (إثبات واجب الوجود) هم في الواقع يعملون بمحيط هذا الشق ، لأن واجب الوجود يثبت بإمكان الوجود ، بمعنى أن أي مخلوق إنما هو في حقيقته واقع في الإمكان ، ووقوعه في حيز الإمكان دال على أن هناك واجب الوجود أوجده ، كما أن تعدد إمكان الوجود دال قهراً على وحدانية واجب الوجود ، ولا يحتاج إلى كل هذا الكلام في مسألة إثبات الوجود ، وحتى ما حاولوه من خلال تشقيق مصطلح الإمكان وصنفوه في ؛ الصانعية ، والنظام ، و… ، ما هو إلا محاولة لتوهيم القارئ أن ساحة الوحدانية التي يعمل بها هؤلاء هي ساحة الوحدانية الحقيقية ، وواقع الحال يكشف أن ما قدموه لا يعدو أن يكون وصفاً للوحدانية بشقها القهري الذي تتساوى فيه كل الموجودات .

أما ما غفل عنه العاملون في علم الكلام بجانب معرفة الوحدانية ؛ هو الشق الثاني : وهو الشق الذي انمازت به المخلوقات ، وتراتبت ، ومن ثم امتحن به الإنسان وعلى أساسه تفاضل أفراده ، وهذا الشق هو الشق المعطل من المعرفة التكليفية ، فعمل الناس في شق المعرفة القهرية إنما هو عمل حاول الذين اختاروا الابتعاد عن سبيل المعرفة الحقيقية ترويجه والعمل على إخراجه وكأنه هو ميدان المعرفة التكليفي ، ولكن على الرغم من كل الجهود التي بذلوها بقي هذا الشق من المعرفة (شق ترفي) بمعنى أن العمل به هو عمل لا يرقى بالعالم به أو العامل به إلى أي مرتبة سوى ما استحدثه الناس من المراتب الدنيوية ، وهذه المراتب هي في واقعها مأخوذة من المعرفة الحق ، ومعنى استحداثها من الناس هو أن أجروها في غير مجاريها ، وهذا استحداث لها في حيز لم تكن عاملة فيه ولن تكون ، ولذلك في هذا الميدان المعرفة الزائفة تستحيل المرتبة المعرفية إلى سلطة وجاه بدلا من أن تكون خدمة ومسؤولية ، وبذلك فميدان هذه المعرفة يحفز شهوة الإنسان ورغبته في بلوغ السلطة والجاه ، ولا يحفزه على العمل من أجل الخدمة وتمثيل الله سبحانه في واقعه ، ومن هنا نجح أولئك الذين استحدثوا هذا الميدان المعرفي ـ ظاهراً ـ في استقطاب سواد الناس للعمل فيه ، وعملوا هم على نسجه نسجا معقدا لا يعرف الداخل فيه له مخرجا ولا غاية سوى ما يقع في وهمه من غاية ، حتى إذا سئل عنها تحدث عنها بعمومية عقيمة وغير منتجة ، لأن كل عامل في هذا الميدان إنما يعلم تمام العلم أنه جاء من أجل أمرين لا ثالث لهما ، وهما أن يكون عالماً ومشهورا يشار إليه بالبنان ، ويمتدح كل عمل يقوم به وإن كان سخيفا ، ويستعظم منه كل فعل وإن كان صغيراً ، وتفخم صفاته على صغائرها ويملأ به أكبر حيز ممكن من أوهام الناس بهذا العبقري الذي جاء بما لا يستطيع أحد أن يأتي به ، ولا أدل على ذلك من جردة الأوصاف والسمات التي تسبق اسمه التي يسطرها المدبجون وتدغدغ مشاعره فيرتضيها ويسعد بها ، وهذه الجردة هي ؛ هذا الكتاب للعالم الرباني والفطحل النحرير ووحيد زمانه ، وسيد أقرانه ، و…. الخ ، من الأوصاف التي لو انتبه من يدبجها لعلم أنها كلما زادت دلت على أن هذا الكتاب وما فيه فقير جداً ولا قيمة له!! وقد يقول سائل : كيف؟؟!! والجواب سهل يسير ألا وهو ؛ لو كان هذا الكتاب كتاب علم حقيقي فهو سيعلن عن نفسه بنفسه ، أما التقديم له باسم كاتبه ووصفه بهذه الصفات فهي دالة على أن الكتاب فقير ويحتاج إلى تلك المقدمات التي تستلب القارئ وتجعله تحت سلطتها حتى تجعله يتوهم سفيه الأفكار عظيمها ، واللف والدوران حول الفكرة عبقرية ، وغموض الفكرة هو دلالة بعد غور كاتبها ، وواقع الحال غير ذلك تماما ومن يريد أن يرى ذلك بنفسه ويمتحنه ، فليعمد إلى عموم الكتب التي كتبت بهذا المجال ويمزق أغلفتها ومقدمات التقريض ، بل وحتى مقدماتها ، وليبقِ المتن حسب ومن ثم يشرع في قراءتها قراءة متعلم ليس أمامه غير الكلمات الدالة على فكر كاتبها فهي من تعرفه بحقيقة هذا الفكر وبواقعه ، ليتوضح له هذا الخوض الذي يتناقض في مرات كثيرة مع أبسط البديهيات ، بل سيتضح للقارئ أن كاتب هذا الكتاب لا يحسن التفريق بين المفاهيم ومصاديقها فيقع في الخلط والإلباس والالتباس ، فيبني نتائج مفهومية على مقدمات مصداقية ، أو يعمل العكس ، أو يخلط بين المفهوم والمصداق ليخرج بنتيجة غائمة ، أو …. ، أو… وهكذا ترى هذه المؤلفات وخاصة التي تناولت ما اصطلح عليه بعلم الكلام مليئة بهذا الشيء ولذا نرى أن هذا العلم انحرف عن غايته التي من أجلها أنشئ ، فبدلا من أن يكون علما لمعرفة الوحدانية صار علما يتبارى فيه الأفراد لإثبات قدراتهم في النقض والنقض المقابل على بعضهم ، وغاية ذلك ليس لبيان حقيقة المنقوض بقدر ما هو بيان لإمكانية فاعل النقض ، وأما العلم بأصله فلم يتجاوز المرحلة التي بدأ منها ، وبقي يراوح في مكانه على الرغم من طول عمره الزمني!!

ما يريد التنبيه إليه هذا المقال هو أن الشق الحقيقي لمعرفة الوحدانية هو الشق المعطل والمغيب والمجهول لدى عامة الناس فضلا على كثير من خاصتهم الذين توهموا أن ذاك الشق هو ميدان العلم والمعرفة ولذلك وجدتهم يفنون زهرة شبابهم في طلبه وطلب ما يتعلق به من علوم وملحقات ، مع أن نظرة صادقة فيما ورد عن أهل بيت العلم والمعرفة وهم آل محمد(ص) سينجلي للناظر أن ما توهمه ميدان علم ومعرفة ما هو إلا وهم وسراب موصوف بقوله تعالى{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(النور/39) ، والدليل على سرابيته أنه لم يقدم للعاملين به ما وعد به في أول الشروع بالعمل فيه ، بل كان يعد بغايات كبيرة ولكنها غايات ـ في نفس الوقت ـ ضبابية وغير واضحة ، لأنها ـ أي تلك الغايات ـ بجملتها مبنية على استفزاز شهوة الإنسان وتفعيل رغباته في العمل والبحث ، حتى يصل إلى مرحلة تستبين له حقيقة هذا العمل ولكنه يجد نفسه غير قادر على التراجع لأنه أوقع نفسه بين المطرقة والسندان ـ كما يقال ـ فالسندان هو هذا السبيل الذي اكتشف عقمه وهو في وسطه ، والمطرقة هو نظر الذين خلفه وهم يتبعونه ويهتدون بقوله ويسيرون على خطاه ، واكتشاف هذه الحقيقة المرة يوقعه في هذا المأزق ، فإن كان حرّاً وطالبا للحق فسيفعل كما يفعل الأحرار ويكشف زيف هذا السبيل ويتحمل قبال ذلك كل النتائج التي قد تكون حياته ثمنا لها ، أو يصمت وينزوي حتى يموت في زوايا النسيان لا أحد يلتفت إليه ، وعلى الرغم من ذلك تبقى كتبه ومؤلفاته رافداً لهذا الميدان الذي اكتشف عقمه وسقمه .

إن شق معرفة الوحدانية الحق هو شق المعرفة الابتلائية والامتحانية والاختيارية ، قال تعالى{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة/256) ، فهذه الآية الكريمة على الرغم من إساءة الناس لفهمها وإجرائها في غير سبيلها الحق هي كاشفة عن شق المعرفة الحق ، فهذه المعرفة التي تستند إلى أن واجب الوجود أمر بديهي لا اختلاف فيه ولا تمايز ولا تفاضل ، ولكن الاختلاف والتمايز والتسابق والتفاضل يقع في : من هو واجب الوجود ، وما السبيل الموصل إليه؟؟؟ وهذان السؤالان هما لب المعرفة الحق ، ولا يمكن معرفة من هو ، إلا بمعرفة السبيل إليه ؛ بمعنى أن هذا السبيل في المعرفة هو ينقسم إلى قسمين ؛ الأول : المفاهيم وهي موجودات مجردة كاشفة ، أو بالمصطلح الأقرب إلى فهم عامة الناس ؛ (القسم النوراني) ، والثاني : هو المصاديق أي الشخوص القائمة بالنور والممثلة له ، فالمفهوم هو عالم مجرد الأشياء فيه مستغرقة ، والمصداق هو حضور مجسد لشيئية المفهوم ، ولذا تجد غالبا ما يقع الباحثون عند تناول المعرفة بهذا الإشكال ؛ إشكال الخلط بين المفاهيم والمصاديق المعرفة لها ، حيث يقيم الباحث مرة المفهوم مقام المصداق او يعمل العكس ، فيلتبس الفهم على القارئ ومن ثم يضيع المطلب والغاية فتصبح القراءة عقيمة ومملة وغير ذات نفع ، ولعل ما علينا أن نفهمه حتى يكون القول نافع ومفيد ومتيسر فهمه للجميع هو أن الفرق بين المفهوم والمصداق هو كالفرق بين الكتاب والمعلم من جهة الحضور ، ولكنهما واحد من جهة المعرفة ، أي من يتوجه إلى المعلم فهو حتما سيعرف الكتاب ، وستستبين له أسراره وما يحتويه من مفاهيم عميقة ، بل وسيلمس تقدما واضحا في نظره للأشياء وفهمها ومن ثم طريقة التعامل معها وهذا يتوضح عليه بعمله ، يعني هكذا يكون ؛ من عرف شيئا أحبه ، وما أحبه يريد أن يظهر عليه اثره ، إظهار الأثر هو بالتخلق بأخلاق المحبوب ، فمن عرف المعلم أحبه ، ومن أحبه عمل على التمثل به حتى يكون مثله ، ومن صار مثله كان في مقامه تنكشف له اسرار الكتاب الذي يقرؤه ، فالكتاب هو بواقع حضوره وجود مفهومي مرمز ، والمعلم هو بواقع حضوره هو وجود مصداقي مبين لتلك الرموز ، ولذا فمفردة مصداق دالة على أن هذا الموصوف بها هو مصدق للمفهوم ونتيجة تصديقه للمفهوم أتاح له فك رموزه هذا من جهة ، ومن جهة أخرى دالة على أن المفهوم هادٍ إليه ومعرِّف به ، فلا يستطيع ترجمة رموز الكتاب إلا من وكِّل به ، فتمكنه من الترجمة وحل معضل الرموز يجعل من الكتاب دال على من ترجمه ومبين لأهميته وضرورته في حياة من نزل الكتاب لهم ، وهذه الحقيقة عرضها الكتاب المجيد بأوضح بيان في قوله تعالى{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}(الإسراء/9) ، فالنص هو من يهدي للتي هي أقوم وليس شيء غيره ، وهدايته للتي هي أقوم من خلال التعريف بالمعلم وبما يتصف به كونه ممثلا للسبيل الأقوم الذي وصفه الحق سبحانه بـ(الصراط المستقيم) ، قال تعالى{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صراط الذين أنعمت عليهم …}(الفاتحة/6-7) فهذا الصراط وصف بأنه أقوم كونه مستقيما ، وكذلك وصف بالأقوم كونه مبينا للقائم عليه (الذين أنعمت عليهم) وهذه الصفة خاصة بالقائم عليه ، بدليل قوله تعالى{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(إبراهيم/1) ، فالكتاب منزل إليه خاصة ، والمخاطب هنا رسول الله في كل زمان ، ومخطئ من ظن أن المخاطب في هذه الآية هو رسول الله محمد(ص) لأن ذلك يستدعي أن تموت الآية بموت صاحبها ، ولو كان الأمر كذلك لمات القرآن كله ، غير أن الثابت هو أن القرآن يجري في الناس مجرى الجديدين الشمس والقمر ، وجريانهما ليس مخصوصا بأمة دون أمة أو زمان دون زمان وكذلك القرآن ، فالمخاطب هنا رسول كل زمان ، وهذا الرسول هو وليس أحد غيره من يخرج الناس من ظلمات الجهل بصراط الله سبحانه إلى نور العلم والمعرفة به ، بل أنه سبحانه صرح باسم صاحب هذا الصراط الموصوف بالمستقيم حين أضاف الصراط إلى إسمه ، بقوله تعالى{قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}(الحجر/41) ، ومن ينظر بتدبر إلى من ضبط الآية وشكلها يكتشف مدى الجور الذي جار به أولئك الذين نصبوا أنفسهم أئمة للكتاب وليس الكتاب إمامه ، فمعلوم أن النص لم تدخله الحركات إلا في وقت متأخر جداً عن نزوله ، أي بدؤوا يضبطونه بالشكل في زمن دولة الأمويين ، وهذا يعني أن هذا الضبط في الشكل واضح جداً دلالته السياسية في العبث في تشكيل النص الحقيقي ، وإلا من له أدنى معرفة بالعربية يقول هذه الصياغة على وفق هذا الضبط هي صياغة ركيكة جداً ولا معنى لها ، فما معنى (صراط عَلَيَّ) هل يعني أنه على غيري ليس كذلك ، ثم ما معنى (عَلَيَّ) هل الصراط موضوع على ظهري وأنا أتحمله حسب؟؟؟!!! لا معنى للآية الكريمة على وفق هذا الضبط الشائع اليوم ، وإنما التزم الناس بهذا الضبط من باب سلطة شيوعه وجريان عامة الناس عليه وأنه بعد ضبط الأوائل لا يجوز النظر والتصحيح وما إلى ذلك من قواعد الاستلاب التي مارستها الأديان السابقة على متبعيها لكي لا ينكشف فعل علماء السوء والطواغيت ومدى تجرؤهم على النصوص الإلهية ، مثل عقيدة (الأقانيم ثلاثة مستقلة وهي واحد وهذا أمر فوق العقل ولا يجوز للمسيحي تعقله وإنما عليه الإيمان به حسب) وهذه مصادرة على المطلوب واضحة ، وهذا استلاب فكري لا يمارسه الحق سبحانه الذي قال {لا إكراه في الدين …} فهذا الاستلاب والسلطوية هي إكراه وقهر ، وحاشا لله سبحانه وهو العادل أن يقهر عباده ، بل هو خيرهم سبحانه وهم محاسبون عنده على اختيارهم ، إذن فالضبط الحق هو ما ضبطه أهل الذكر وهم آل محمد(ص) حيث ورد : [عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز وجل: قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، قال: «هو- والله- علي (عليه السلام)، هو- والله- الميزان والصراط المستقيم».](مختصر بصائر الدرجات: 68.) ، ومن هذه الآية الشريفة يتوضح للقارئ نهج المعرفة الحق من غيره ، فالذين تدخلوا حتى بضبط النص الإلهي ليلبسوا على الناس صراط الله المستقيم ، ويصرفونهم عنه بغية إخراج الناس من نور المعرفة إلى ظلمات الجهل ليكون للطاغوت عليه سبيلا ، وليجدوا لهم مندوحة في إحداث سبيل للمعرفة هو في واقعه سبيل يتساوى به الإنسان المكلف مع من هو دونه من الخلائق الذين لم يكلفهم الله سبحانه معرفته ولم يجعلهم يتمايزون بحسب المعرفة ، بل أن الخلق الذين كلفهم الله سبحانه معرفته هم من يتمايز بالمعرفة وبها يتفاضل ، ونهج المعرفة قائم على أركان ثلاثة ؛ غاية لابد من بلوغها ، وطريق موصل للغاية ، وعلامة دالة على الطريق ، فكانت الغاية معرفته سبحانه التي ذكرها بالحديث القدسي : [كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف .] ، والسبيل هو النص الإلهي المعرِّف بالغاية ، والعلامة الدالة على الطريق (النص الإلهي) هي مترجم القرآن والناطق به وهو معلمه ، وهو الميزان الذي توزن به معرفة العباد ، وهو الإمام الذي ذكره الحق سبحانه بقوله تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}(الأنبياء/73) ، وهؤلاء الأئمة المجعولون هم أئمة منصبون منه سبحانه ولذا فكل نهج المعرفة بتفاصيله هو منه سبحانه ولا دخل للعباد في أي ركن من أركان المنهج ، فالغاية منه ، والسبيل منه ، فكيف يتوهم الناس أن المعلم يكون منهم وباختيارهم؟؟!! لا أحد منصف لنفسه يقول أن الحكيم يترك الأمر لمن دونه ولا يحكمه ، وليس من الحكمة أن يبقى ركنا من أركان المعرفة مجهولا للناس ، ولو كان ذلك ـ تعالى الله سبحانه عن ذلك علواً كبيرا ـ لكان الناس معذورين في جهلهم ، وعدم قدرتهم على المعرفة ، ومن ثم فوقوعهم بحبال المتكلمين والعمل بنهجهم لا يؤثمون عليه لأنهم لم يجدوا سبيلا للمعرفة كي يعرفوا به الله سبحانه غير نهج المتكلمين ، وهذا الأمر الواقع يشهد بخلافه فالله سبحانه لم ينزل دينا ناقصا ويترك للعباد مهمة تكميله ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، والعباد هم فقراء ليس لديهم ما يعطونه ، بل هم يسألون الغني أن يعطيهم ، وليس هناك غني مطلق غيره سبحانه ، وهم إليه متوجهون ، طوعا بالمعرفة ، وقهراً بأصل الوجود .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى