زاوية الأبحاث

وكلمة الله هي العليا

بسم الله الرحمن الرحيم
بقلم د. موسى الأنصاري
كثيرا ما تتداول الأوساط الفكرية والمجتمعية ومراكز الدراسات الاستراتيجية وغير الاستراتيجية هذه المفردة (الحضارة) ، ويجتمعون على ظاهر اللفظ ، ويتفرقون عند التعاطي معه ، حيث أن كل فرد ، وكل جماعة ، وكل شعب أو أمة تتخذ لها مفهوما لهذه المفردة يلائم تلك الصورة التي رسمها خيال ذاك الفرد أو المجتمع ،

ولذلك نرى أن المفردة تمددت أفقيا وراحت تتعدد ، وترضى أن تجمع عرضيا ، مع أن الواقع لا يعترف بذلك الجمع مطلقاً ، وخاصة في زمن افتتنت الناس فيه بالثورة التقنية الهائلة التي ـ بحسب ما يصفون ـ حولت العالم إلى قرية صغيرة ، وليس من المعقول أن يكون العالم على سعته الجغرافية الكبيرة قرية صغيرة وتكون الحضارة الصانعة له حضارات متعددة متصارعة ، هذا تماما لا يقره تعقل ينظر إلى الأمور بواقعية ، فتعدد الحضارات واقعا ما هو إلا وهم أثارته عزيمة البحث عن حضارة يرى فيها الإنسان ما يتطلع إليه بفطرته من تحقق للعدالة على أرض الواقع ، ومن تعامل بصدق مع الواقع الداخلي والخارجي للإنسان فرداً ومجتمعاً ، ومن رحمة تشمل كل تفاصيل الحياة ومفرداتها بغض النظر عن هويتها ، فهذه الأسس الثلاثة هي التي تستند إليها فطرة الإنسان السليمة الباحثة عن حضارة توفر لها حالة الانطباق مع الواقع استنادا إلى تلك الأسس الثلاثة هي الباعث الحقيقي عن البحث عن الحضارة المنقذة ، ولذلك كان هناك نهجان في الحياة البشرية يتنازعان هذا الأمر العظيم ، وهذان النهجان متناقضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ـ بحسب تعبير المناطقة ـ ذاك أن كلا النهجين عامل على تقويض مرتكزات الآخر ، وواقع الحال يقول أنهما في صراع حقيقي ، وطوال المسيرة البشرية منذ آدم(ع) إلى يومنا هذا يؤكد أحد النهجين وهو السماوي على ارتباط الإنسان بالجانب الروحي القادر على السمو بالإنسان والارتقاء به إلى مصاف الخلود والملك على وفق نهج تربوي أخلاقي يقوض ارتباط الإنسان بهذا العالم المادي من خلال كشف حقيقته بوصف هذا العالم المادي هو ليس أكثر من قاعة امتحان جاء إليها الإنسان لأداء الامتحان ثم مصيره المحتوم هو الخروج من تلك القاعة بعد انقضاء أجل الامتحان بغض النظر عن أداء الإنسان في قاعة الامتحان ، ويؤكد النهج الأرضي على أن مسالة الارتباط بالسماء وما أوحت به من خلود وملك لا يبلى ما هو إلا (خرافة) وأقوال لا واقع لها ، وعلى الإنسان أن يتكيف مع هذا العالم الذي هو فيه الآن ، وقضية الأجل في هذا العالم هي من قانون الأشياء والحركة القاضي بأن الشيء تستهلكه الحركة باستمراريتها ، والمنطق الأرضي يقول ـ كما وصف الحق سبحانه ـ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}(الجاثية/24) ، ولاشك في أن هذا القول نابع من الظن وليس العلم ذاك أن من يتبنى هذا الفهم هو يجهل ثمرة حركته باتجاه المستقبل على الرغم من أنه بأم عينه يرى أنه مجبول على الحركة باتجاه المستقبل ، ولذلك يحاول جاهدا أن يغالب فطرته بالعمل على تحقيق ما يتوهمه حتى وإن كان فيه حتفه الذي لا يتمناه مطلقا ، ذاك أن الموت بالنسبة لمن ينتمي إلى النهج الأرضي هو كابوس ثقيل يحاول محاربته بكل الوسائل ولكنه بالرغم من أنفه يجد نفسه على أعتابه عاجزاً مهزوماً ، ولذلك الصراع بين النهجين هو صراع الظن مع العلم ؛ علم قادم من السماء ، وظن مبعثه النفس الإنسانية الأرضية ، فلمن تكون الغلبة يا ترى؟؟؟؟؟؟!!!
لقد حاول الإنسان تجيير هذا الصراع الحاصل بين العلم النازل من السماء ، والظن الذي مبعثه النفس الإنسانية إلى ما اصطلح عليه بالحضارة ليجعله صراعا خارجيا بعيدا عن ساحة الذات ، أما حقيقة الموقف فهو صراع محتدم في ذات الإنسان بين أن يكون وعاء للفيض النازل من السماء وهو (العلم) ، وبين أن يكون هو المولد للمعرفة استنادا إلى ملكة الوهم التي هي من لوازم النفس الإنسانية ومن ثم يحول النفس إلى وعاء لظنه وتصوراته عن الداخل والخارج ، ومن هنا نلحظ اليوم أولئك الذين يتبجحون بالعقلانية والتعقل هم في واقع الحال ابعد الناس عنها!!! لماذا؟! لأنهم توهموا أنهم ميزان الأشياء ، بمعنى ؛ أن ذواتهم هي الميزان الذي يوزن به الواقع ليستبين لهم الغث من السمين ، والحق من الباطل!! وهذا وهم خطير وقع به الناس اليوم بسوادهم الأعظم ، فالنفس الإنسانية لا تصلح أن تكون ميزانا تشريعيا مطلقا ، لأن هذا العمل مخالف تمام لحكمة الخلق!! فأنى للمخلوق أن يكون ميزانا وموزونا في نفس الوقت؟؟!! فهل يرضى بهذا القول عاقل؟؟!! ولو افترضنا ـ من باب فرض المحال ليس بمحال ـ أن هذا ممكن ، فهل ستتوفر عدالة بميزان كهذا لا حيادية فيه مطلقا؟؟ وهل تستطيع الذات البشرية أن تتبين على وفق ذلك الموقف الحد الفاصل بين أن تكون موزونة ، وبين أن تكون ميزانا؟؟!! وأسئلة كبيرة وخطيرة تطرح على هذا الفهم الظني والتصور الأرضي للواقع لا جواب لها سوى التصورات والافتراضات وطول الأمل في إمكانية تحقيق ما هو محال ، وإذا ما وصلت البشرية واقعيا إلى مرحلة الفشل عزت ذلك الفشل إلى خلل في التطبيق ، لا عجز في النظرية ، وهذا ما هو واضح اليوم على كل النظريات المعرفية التي اصطنعها الناس سواء ما كان منها سياسيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا ، أو حتى نفسيا .
إذن فالصراع حقيقته ليس بين ما يحاول الناس وصفه بعيدا عن الصراع الداخلي الكائن بين مراد الذات والفطرة المغروسة فيها ، فلا صراع بين الحضارات ، ولا صدام بين الحضارات ، بل هو صراع بين ظلمة الذات البشرية ، والنور السماوي ، صراع بين (أنا) الإنسان المخلوق التي هي عدم قابل للوجود ، وبين (أنا) الخالق النورانية ، صراع على عرش الله سبحانه ، وصراع من أجل السلطة والملك ، ابتدأته البشرية ، وذهبت به بعيداً ، وكانت نتيجته إراقة دماء المعلمين الإلهيين الذين بعثهم الله سبحانه لكي ينقذوا الناس من ظلمات الوهم ، وينقلونهم إلى نور الفهم ، وهذا الصراع لن يخبو أواره إلا بالالتفات إلى أن حقيقة الصراع داخلية ولا علاقة للواقع الخارجي بها مطلقا ، بل الواقع الخارجي مظلوم أقبح الظلم عندما صيرته الإرادة البشرية إلى ساحة للصراع ، وبعد احتدام الصراع شرعت باتهامه وإلصاق تبعات المصائب والبلاءات كلها فيه ، وهو منها بريء براءة الذئب من دم يوسف(ع) .
فواقع الحال يقول ليس هناك صراع بين حضارات ، بل هو صراع بين إرادتي ؛ العلم والظن ، بين إرادة السماء ، وإرادة المخلوق الأرضي ، ولو أنصف الناس أنفسهم لتحولوا إلى ساحة البحث عن الحضارة الأصل ، كي يصلوا إلى ما جبلوا عليه ؛ طلب الخلد والملك ، لقد عجلت البشرية أمر ربها سبحانه ، بل وخالفت نتيجة ذلك التعجل ما أمرها ربها سبحانه ، وحاولت تغيير ملامح قاعة الامتحان لتوهم نفسها أنها بيت القرار ، وانشغلت عن أداء الامتحان بالعمل على تغيير مرتسمات القاعة لتبدو للناظرين ، وكأنها محل قرار واستقرار ، على الرغم من أن البشرية كل لحظة ترى بأم العين أفواج الخارجين من قاعة الامتحان كرها فلم ينفع كل ما عمل فيها لجعلها تبدو وكأنها الجنة التي وعد الله عباده المتقين ، ذلك لأن الظن الذي فعلته البشرية لتصنع منه نتاج تصوراتها لا وجود له على أرض الواقع ، حيث أن أرض الواقع لا تمتثل إلا لأمر خالقها سبحانه ، فكما نعرف أن ليس بين المخلوقات من جعل مخيرا ومكلفا غير الإنس والجن ، أما باقي المخلوقات فهي عاملة على وفق النظام الذي به خلقت ولا تخالفه مطلقا ، ولذلك فهي تشكو إلى خالقها كل محاولة لتغيير ملامحها من الناس ، أو تغيير نظام عملها ، ولو التفتنا قليلا لرأينا أن هذا الأمر كلف البشرية هلاكا لا تتمناه ، وجاءها البلاء من حيث لا تحتسب ، كل هذا لماذا؟؟!! لأن كل محاولة لتغيير خلق الله سبحانه يعقبها إرادة دفاع فطري من تلك المخلوقات عن كيانها الرباني ، وتستبين إرادة الدفاع تلك بظهور الأوبئة ، أو الأمراض أو الفيضانات أو الزلازل أو البراكين ، أو … ، أو … إلى ما لا يعد ولا يحصى من أسلحة الدفاع ، وهاهي البشرية اليوم تدفع فاتورة جنونها في تغير خريطة العالم من خلال سحائب المصائب التي بدأت تهطل على رؤوس الناس في شرق الأرض ومغربها ، من دون استثناء ، فهذا البلاء النازل ألا يستدعي وقفة تعقل وتدبر من الناس للعودة إلى ساحة العلم واستبانة السبب الذي جعل الحال يصل إلى ما هو عليه اليوم؟؟؟
إن العجيب في أمر هذه البشرية أنها تصرح بموتها ولكن تجيِّر أسباب الموت وتعلقها على شماعات أعدتها سلفا واصطلحت عليها بـ(صراع الحضارات) أو (صدام الحضارات) ، وواقع الحال ليس هناك صدام ولا صراع على أرض الواقع الخارجي بل هو صراع في الواقع الداخلي للناس على مستوى الأفراد والجماعات وهذا الصراع بين المعلوم والمظنون خرجت ناره إلى الحرث والنسل فأهلكته ، فالمتهم الوحيد بل والمتسبب الوحيد هو هذه البشرية المتمردة على المعلوم ، العاصية لنظام ربها ، النازلة بغير المنزل الذي أراده لها بارئها ، فالحق سبحانه أنذر وأعذر ، حيث وضع قانونا للناس يبين لهم سبب صب العذاب على رؤوسهم حيث قال جل وعلا{مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(الإسراء/15) وهذا القانون الإلهي ما تخلف ولو للحظة على الأرض منذ أن خلقها الله سبحانه ، فلماذا هذا الإصرار على التيه في صحراء المظنون ، والذهاب بعيداً فيها ، والاستكبار على الرسول المعلم الذي أرسلته السماء منقذا وهاديا للبشرية من تيهها الذي شارفت معه على الهلاك؟؟!!! فهل هذا من العقل في شيء؟؟؟!!!
لقد وضع الرسول اليوم للبشرية وصفة العلاج إذا ما أرادت البشرية الحياة وذلك من خلال بيانه أن ما اصطلحوا عليه بـ(صراع الحضارات) أو (حوار الحضارات) هو عنوان غير دقيق ، بل غير صحيح، حيث قال وصي ورسول الإمام المهدي السيد أحمد الحسن(ص) : [ويجب أن يعرف من يبحث عن الحضارة أولا أن الحضارة الحقيقية التي يبحث عنها تنسب إلى الأخلاق والروح أو يمكن أن نقول ؛ الدين الإلهي والقيم الأخلاقية ولا تنسب إلى الأرض أو القومية – وربما تبين هذا مما تقدم – فيمكن أن نقول الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية والحضارة اليهودية ولا يمكن أن نقول الحضارة العربية أو الأمريكية أو الرومانية . كما أن الحضارة الإسلامية الحقيقية والحضارة المسيحية الحقيقية والحضارة اليهودية الحقيقية هي المبنية على ما جاء به محمد (ص) وعيسى (ع) وموسى (ع) وأوصيائهم (ع) وليست ما جاء به أو قام به من حكم المسلمين أو المسيحيين أو اليهود ولا ما وصى به العلماء غير العاملين وهذه كلها واحدة وهي الحضارة الإلهية الحقة التي ضيعت وغيبت لمصلحة الحكام الطواغيت والعلماء غير العاملين قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)
وأيضاً على ضوء ما تقدم ستكون هنالك نتيجة حتمية يجب أن لا نغفلها أو نتغافل عنها مع أولئك الطواغيت أو العلماء غير العاملين الذين لا يريدون سماع الكلمة الطيبة ولا يريدون البحث بموضوعية عن الحضارة الإلهية الحقيقية وأيضاً يريدون تشويه الحضارة الإلهية الحقيقية ونشر مسخ شيطاني على هذه الأرض وإضلال الناس وحرف الناس ليكونوا أتباعا لإبليس لعنه الله في امتناعه عن السجود لآدم (ع) خليفة الله في أرضه ، أقول إن النتيجة الحتمية مع أولئك هي الصدام الذي لا مفر منه ولا سبيل لتجنبه لأنه يكون عندها الطريق الوحيد لنشر الحضارة الإلهية على هذه الأرض ، وهذا ما قام به أنبياء الله ورسله (ع) كما تبين مما تقدم في هذا الكتاب .
فالنتيجة إن الحوار لا يكون بين الحضارات بل هو بين بني آدم للبحث عن الحضارة الإلهية الحقيقية وكذلك الصدام لا يكون بين الحضارات بل بين الحضارة الإلهية الحقيقية ونقيضها أو قل بين النور والظلمة كما يمكن أن يكون الصدام بين الظلمات بعضها مع بعض .
فليس كل من يصدم بالظلمة هو النور بل ربما كان ظلمة أيضاً ولكن كل من يصطدم بالنور هو ظلمة ، لذا فلابد أن نبحث ونعرف النور وبه نعرف الظلمات .](من كتاب الجهاد باب الجنة) ، فالحق في هذا الأمر ينبغي أن يكون ؛ البحث عن الحضارة الحق ، فالحوار والصراع لا يكون بين الحضارات بل هو قائم بين الناس ، فعلى الناس أن تتحاور لاستبانة الحضارة الحق ، حضارة العلم ، لا حضارة الظن ، حضارة الحياة ، لا حضارة القتل والعنف وامتهان كرامة الإنسان ، وتلك الحضارة الحق هي حضارة بناء روح الإنسان لا بدنه ، حضارة المادة فيها ليست هي المنظورة ، بل المنظور هو تحقيق إرادة الله في هذا العالم وهو أن تكون كلمته هي العليا ، كما اقرها في عليائه جل وعلا ، وكما جعلها ، قال تعالى{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(التوبة/40) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى