أخبار سياسية منوعة

عن أية علمانية يتحدث السيد الخالدي

السيد الخالدي والعلمانيةالعلمانية كما يعرفها القاموس الإنجليزي تعني : ( دنيوي أو مادي ، ليس بديني ، ليس بمترهب أو ليس برهباني ، حركة إجتماعية ، تهدف إلى نقل الناس من العناية بالآخرة إلى العناية بالدار الدنيا فحسب ) .

 

أما دائر المعارف البريطانية فتصف العلمانية بأنها حركة اجتماعية و تتحدث عنها في إطار حديثها عن الإلحاد الذي قسمته دائرة إلى إلحاد نظري وإلحاد عملي جعلت العلمانية من ضمنه .[ ( نشأة العلمانية ) للدكتور محمد زين الهادي ] .

وبالمعنى ذاته يصف إسماعيل محمد حنفي العلمانية في بحث له عنوانه ( نبذة عن العلمانية ) ، يقول : ((العلمانية في الحقيقة تعني إبعاد الدين عن الحياة أو فصل الدِّين عن الحياة أو إقامة الحياة على غير الدِّين؛ سواء بالنسبة للأئمة أو للفرد.
أما أصل كلمة علمانية فهي ترجمة غير صحيحة للكلمة اللاتينية (SECULARISM) وترجمتها الصحيحة هي: اللادينية أو الدنيوية, بمعنى ما لا علاقة له بالدين ويؤكد هذه الترجمة ما ورد في دائرة المعارف البريطانية في مادة (SECULARISM) “هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها؛ وظل الاتجاه إلى الـ(SECULARISM) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية كما يؤكد أن ترجمة الكلمة اللاتينية هي اللادينية؛ ما أورده معجم أوكسفورد شرحاً لكلمة (SECULAR):

(1) دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
(2) الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية )) .
وتصور العلمانية الإشكالية الفكرية التي ترى في نفسها حلاً مناسباً لها بالقول : إن (( موكب البشرية السابح مع تيار الزمن يحيا ألفيته الثالثة، وشعبنا يكاد بأفكاره يكون قابعاً هناك في مجاهل القرون الغابرة، فيما نعيش بأجسادنا في الزمن الراهن، فكيف يمكن والحالة هذه أن يتحقق الحد الأدنى من التواصل، بين العقل والجسد؟

الحل إما أن يرتد العالم كله في مسيرة حضارته، حتى يصل إلى لحظة الماضي الذي يأسرنا ونعشقه، وهذا ما تحاوله الآن طلائعنا المجاهدة بقيادة بن لادن والظواهري وحسن نصر الله وخالد مشعل ومهدي عاكف، وإما أن نستطيع مغادرة محطة الزمن المنسي، ونجد لأنفسنا طريقاً نعود به مسرعين الخطى إلى العصر )) .
هذه صورة نموذجية للإشكالية وهي صورة على ما يبدو بوضوح تستورد عناصرها كلها من التجربة الغربية التي لا يكف ، بل لا يجد العلمانيون مصدراً آخر لفكرتهم سواها !!
يكتب أحد العلمانيين ما يأتي : (( بدأت مسيرة الحضارة وعقل الإنسان صفحة بيضاء، ليبدأ باكتساب الخبرات العملية من واقع ممارساته الحياتية، وليبدأ مع هذا تكاثر تساؤلاته عن الوجود والحياة، وقد أتاحت له خبراته المستمدة من ممارساته العملية إجابات بسيطة عن النزر اليسير من الأسئلة، تاركة فجوة تتسع مع الأيام، نتيجة زيادة معدلات التساؤل الناتجة عن تفجر الوعي الإنساني، على المعدلات المتواضعة للإجابات المكتسبة من الخبرات العلمية، وهنا تصدى الخيال الإنساني لسد تلك الفجوة، فافترض افتراضات وأساطير، تحاول حل أكبر عدد من الإشكاليات، واختلفت تلك الاجتهادات وتطورت باختلاف الشعوب، وصارت مع الوقت بمثابة حقائق مقدسة، اختلطت مع المعارف العملية المكتسبة، ليحتويها جميعاً وعاء واحد، يصح تسميته “بالفكر الديني”.
استغرقت هذه المرحلة الجزء الأطول من مسيرة الحضارة الإنسانية، ورغم أن المليارات من البشر آمنوا بأديان أتى وحيها من السماء، إلا أن ما نصطلح على تسميته “الفكر الديني” كان دائماً فكراً وفهماً بشرياً، ويشمل الجزء المتعلق بالدين ذاته، كما يشمل الجزء المتعلق بالخبرات البشرية، وقد انصهر الجزءان ليبدوان كمنظومة واحدة، تعتقد الغالبية من العوام أنها بكاملها وحي سماوي مقدس، وهو التصور الذي صادف هوى رجال الدين، لأنه يجعلهم مصدر كل المعارف والسلطات .
جاءت اللحظة المفصلية في تاريخ البشرية، مع عصر النهضة في أوروبا، حين عرفنا الأسلوب العلمي التجريبي في البحث، للوصول إلى إجابات على أسئلة الإنسان، وقد أدى تطور هذا الأسلوب إلى تحقيق طفرة هائلة في حجم المعارف الإنسانية، ما استدعى انفصاله واستقلاله التام عن حزمة “الفكر الديني” )) .
والكاتب المشار إليه يحاكي في نصه المقتبس الفكرة التي طرحها أوغست كونت حول المراحل الثلاثة المعروفة والتي تبناها من بعده والى حد كبير تلميذه عالم الإجتماع الفرنسي دوركايم ، فالمسألة هي دائماً مسألة اقتباس حضاري وتعميم لإشكاليات الحضارة الغربية على حضارتنا الإسلامية .
ولو تمعنا في الشواهد والأمثلة التي عادة ما يسوقها العلمانيون في صدد تبرير توجههم سنلاحظ أسماء من قبيل ابن لادن وطالبان وإيران والعثمانيين … الخ ، وبكلمة أخرى يلجأ العلمانيون – من حيث تعمدوا أو لم يتعمدوا – الى المغالطة فيقدموا الإسلام من خلال بعض التجارب التي لا تمثله في الحقيقة ويغضوا النظر كلياً تقريباً عن الحقيقة النظرية للإسلام التي تنطوي عليها نصوصه الأصلية ، وكثيراً ما يلجأون الى إجتزاء بعض الموضوعات من سياقاتها وينظروا لها من خلال العيون الغربية الملونة .
على أية حال هذه كانت نظرة سريعة تبين حقيقة العلمانية كما يفهمها الغربيون ومقلدوهم العرب ، ولكننا حينما نقرأ للأستاذ الخالدي نصطدم بفهم مغاير يكاد ينفرد به ، وأقول يكاد لأن الرجل على ما يبدو لا يخالف السنة العلمانية العربية كثيراً ، فبعد قراءتي لمقال كتبه السيد زهير الخويلدي يقدم فيه مطالعته لكتاب (( مارسيل غوشيه عن دور الدين في الديمقراطية )) لاحظت قرباً كبيراً بين طروحات مارسيل غوشيه كما يقدمها الخويلدي والطروحات التي يتحدث عنها الأستاذ الخالدي ، يكتب الأستاذ الخويلدي : (( “المدهش خلال هذه الحقبة هو تواجد الخروج من الدين مع العودة إلى اكتشافه” ثمة رأي شائع يعرف العلمانية على أنها فصل الدين عن المجال العام سواء في التدبير السياسي للمجتمع أو عند رسم الغايات النهائية للحياة الإنسانية ويفهم التنوير على أنه إخفاء للرموز الدينية من الحياة المدنية وتحييد للمقدس في عملية الحراك الاجتماعي ويتحفظ على قيام النظريات السياسية على أساس قراءة تأويلية اجتهادية لما توفره المعتقدات الدينية من أفكار عامة حول المعاملات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية والتنظيم الإداري بل يصل به الأمر إلى تبني خيارات لااعتقادية مادية من أجل الدفاع عن العلمانية وينادي بتجفيف المنابع اللاهوتية والحسم مع الرؤى الميتافيزيقية الغيبية ويتصور أن ذلك هو جوهر الديمقراطية الحقيقية ويعارض وجود هيئات ثقافية وحقوقية واجتماعية لها مرجعية دينية ويعتبر ذلك تهديدا لمكاسب الحداثة والدولة العصرية وهذا التصور يتبناه الكثير من الناشطين والمثقفين الذين يزعمون أنهم تحديثيين وتقدميين.
بيد أن مثل هذا الرأي يؤدي إلى ارتكاب عدة أخطاء ويسجن نفسه في بوتقة ضيقة ولا يرى الأمور سوى من جانب واحد ويسيء التعامل مع واقعه ويفضل الحكم السكوني الثابت على عالم من الحياة المتحرك والمتدفق الذي يعيشه الناس والذي يلعب فيه العامل الديني أحيانا دورا مركزيا، كما أنه لا يستطيع أن يقتلع هذا البعد العقائدي من جذوره ولا يتمكن بالفعل من تحييده من الصراع الاجتماعي بل نراه يعطي للموقف الإيماني المضاد مبرر الدفاع عن نفسه والتواجد بقوة ويصل الأمر أن توظفه الأنظمة الشمولية والإمبراطوريات المعولمة لفائدتها من أجل تحقيق المزيد من السيطرة والتوسع .
هذا الرأي الشائع يناقشه مارسيل غوشيه في كتابه: “الدين في الديمقراطية” ويرد عليه بالحجة الساطعة والبرهان الواضح مبينا أن علمنة الدين لا تعني إلغاء لدوره في الحياة العامة والإلقاء به إلى هامشية الحياة الخاصة بل فهمه والتعرف على الإمكانيات الهائلة التي يحتوي والتي لا تزال صالحة لتوجيه الناس وحفز الهمم نحو تحقيق التنمية والتقدم.
كما أن دمقرطة المجتمعات لا تفترض أفول الآلهة واختفاء المقدس وثورة ضد الإيمان واعتبار عقيدة الجمهور عقيدة باطلة بل بالعكس ترتبط بالانطلاقة في عالم الروح وتحقيق وثبة جدلية بين النظر والعمل عن طريق الإيمان والإخلاص والصدق ودون هذه القيم السمحة لا يقدر أي فعل سياسي راشد أن يتخلص من الفساد والتسلط والأنانية ليؤسس الصلاح والبذل ويتحلى بروح المسؤولية أين تترك الفرصة لكي يستيقظ صوت الضمير في أفراد المجتمع فتسود بينهم مبادئ الإخاء والتعاون وتتقوى اللحمة الاجتماعية وينصرفون نحو العمل والعطاء من أجل الفضاء المشترك الذي يربط بينهم .
قد يقول البعض إن هذه محاولة لإصلاح السياسة عن طريق الأخلاق ولجعل الأخلاق مستخلصة من الدين وهو ما يدفع إلى طرح الأسئلة التالية: ما المقصود بالديمقراطية؟ وماذا نعني بالدين؟ وكيف ينبغي أن نفهم العلمنة؟ وما العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة: العلمنة، الدين ، الديمقراطية؟ )) .
ولكن الأستاذ الخالدي يضيف على ما يبدو بعض التنظيرات ، وهي تنظيرات – وأرجو أن يسمح لي الأستاذ الخالدي الذي لا أريد التسبب بأي كدورة له – يغلب عليها الإرتجال وعدم الدقة واستخدام المصطلحات بصورة غامضة تجعل كتاباته بعيدة عن متناول الفهم ، وتضفي عليها المزيد من الإلتباس .
وعلى العموم لا تخرج محاولة الأستاذ الخالدي – إن كنت قد فهمته – عن فكرة علمنة الدين التي بدأت تشيع في كتابات العلمانيين العرب ، من قبيل البنا وغيره ، وهي في الحقيقة محاولة لا تختلف عن جوهر الفكرة العلمانية لاسيما حين يتعلق الأمر بالدين الإسلامي الذي لا يقل الجانب الإجتماعي والسياسي أهمية فيه عن الجانب الفردي .
إن المسألة بظني هي أن العلمانيين لم ينظروا الى الإسلام من خلال صورته الغضة الطرية الحقيقية التي يسعى السيد اليماني أحمد الحسن الى تجليتها ، بل نظروا له من خلال الممارسات المنحرفة والرؤى المشوهة التي قدمتها المؤسسات الدينية الشيعية والسنية على السواء ، وبطبيعة الحال أنا هنا أقدم أحسن الظنون التي يمكن أن يطالب بها العلمانيين وإلا فإن وراء الأكمة ما وراءها .
أخيراً كم كنت أتمنى من السيد الخالدي أن يقدم طروحاته بلغة واضحة ومفاهيم لا لبس فيها

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى