الجسد هو وعاء الروح المؤقت وآلتها في هذا العالم الجسماني ، وهو الابتلاء الذي ابتلينا به، واساس الفوز والخسارة في هذا الامتحان ، فكل مايؤثر بالجسد له تاثير على الروح ،
ولهذا الجسد منافذ للدخول والتاثير فيه مثل السمع والبصر والفم وبقية الحواس الاخرى وكل انشغالات الجسد ……هي بالتالي تشغل الروح ، لذلك فنحن عندما ننام وتنام هذه الحواس ونغفل عن هذا العالم الجسماني ترتقي الروح الى عالم الملكوت فتحدث الرؤيا .
هناك نوع اخر من الارتقاء الروحي يحدث اثناء اليقضة اذا استطعنا ان ننقطع عن الدنيا ، وهو الكشف الذي يحصل عند بعض الناس ، فهو كالرؤيا ولكنه في حال اليقضة ،وهاتين الحالتين من الارتقاء تعود الروح فيهما الى عالم الملكوت او بتعبير اخر تتفتح بصيرة الانسان في الملكوت، وهو عالم ارفع من عالمنا هذا الذي نحياه ،
وهما – الرؤية والكشف – طريقان من طرق الوحي الالهي للانسان ، فكلما قل اشتغال الانسان بهذا الجسد قل اشتغال الروح به وارتقت في عوالم الملكوت وصولا الى مقامي النبوة والرسالة ، وان أكثر مايشغل الجسد هو الطعام والجنس ويمثلان عائق كبير للروح ،
اما الطعام ، فان انشغال الروح بالمعدة والجهاز الهضمي وتمثيل هذا الطعام له عدة جوانب ، فكل اكلة بها ظلمة كالسموم التي يستخلصها الكبد والكلية وكذلك المواد المفيدة التي تنفع الجسم كلها انشغالات تنشغل بها الروح فكلما قل الاكل قل اشتغال الروح بهذه الامور وتفرغت الروح للانقطاع للملكوت فقد قال نبي الله عيسى عليه السلام ( ليس بالطعام وحده يحيى ابن آدم ولكن بكلمة الله ) . وقال السيد اليماني عليه السلام ( وأنا عبد الله أقول لكم بالطعام يموت ابن آدم وبكلمة الله يحيى )…. .
واما الجنس فهو ايضا مما يشتغل به الجسد ويشغل الروح عن الارتقاء لذلك حثت الاديان على الزواج لانه يسد فتحة هذه الشهوة فالروح ليس لها انشغال به بعد اطفاء هذه الشهوة بالحلال .
وبالاحرى فكل هذا العلائق الجسدية بالاشياء ماهي الا اوتادا دنيوية تربط الروح بهذه الدنيا (جهنم ) (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (التوبة:49) (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) (مريم:71) فالاكل والشرب والمال والجنس والاولاد والبيوت ووو…. ،
كلها اوتادا يرتبط بها الجسد دنيويا طالبا الراحة والرفاه، فترتبط بها الروح لذلك يقول الباري (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) (الانبياء:13) فهذه الدنيا هي نفسها اولى طبقات جهنم ولكن بعد ان تكشف حقيقتها لمن ارادها ففي هذه يقول الباري عز وجل (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (قّ:22) اي لترى يامن انشغلت بهذه الدنيا وشغفت بحبها حقيقتها وهي انها (اولى طبقات جهنم )…..
وبالتالي يرى من انشغل بهذه الدنيا الاشياء بعد كشفها على حقائقها وهي كلها متنافيات فيرى الحاسد عقرب والشهوات الدنيوية افاعي والاموال نجاسات وهكذا كل ماكان يراه انه غاية في الجمال في هذه الدنيا سيجده الم ومنافي وربما غاية في القبح ان كشفت الحقائق له فالذي يربط نفسه بحبال الدنيا يربط نفسه بنار جهنم من حيث لايعلم ويكفيه من العذاب بقاءه فيها بعد كشف غطاءه (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) (مريم:71-72) فكل انسان ورد جهنم بدخوله الى هذا العالم الجسماني،
فاما الذين اختاروا الله واعرضوا عن الدنيا وزخرفها فقد نجوا بهذا الاختيار (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) واما الذين اختاروا هذه الدنيا وشغفوا بحبها وانشغلوا بشهواتها عن الله سبحانه وتعالى فسيتركون لاختيارهم فهم قد اختاروا جهنم التي سيعرفونها عند كشف الغطاء (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّا) هل ترى عدالة اعظم من هذه،
فالعقاب هم مَن اختاروه بل وتمسكوا به عندما كانوا يجهلونه وكم ارسل لهم سبحانه من المرسلين مبشرين ومنذرين يحذرهم من هذه الدنيا وزخرفها (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185) نعم من زحزح عن الدنيا (النار، متاع الغرور) فقد دخل الجنة ولكن من يفقه ؟ ومن يتيقن ؟ ومن يزحزح نفسه عن جهنم ويدخل الجنة؟ قبل ان يندم ولاينفعه الندم ولن يجد ردا عندها غير (……اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) (المؤمنون:108).
الانشغال بعشق هذا العالم الجسماني وامتداد جذور النفس وارتباطها بالاوتاد التي ثبتتها في هذا العالم ، يؤدي الى صعوبة فصلها عنه فكيف يمكن ان تفصل هذه الأنفس عن هذا العالم الجسماني إلا بتقطيع هذه الجذور أو الحبال المشدودة بقوة باوتاد هذا العالم الجسماني، ولذا تكون الآم الموت ( أي بسبب تقطيع هذه الجذور وهذه الحبال )
ولذا أيضاً لا توجد شفاعة للخلاص من الآم الموت، لأنه لا يحصل موت المتعلق بالدنيا إلا بها قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:48) (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (البقرة:123) فهذا اليوم الذي تكون الشفاعة ممتنعة فيه هو يوم الموت….
وبعد فهم ماتقدم نفهم انه لا معنى للشفاعة هنا، لأنه لابد من قطع هذه الجذور ليحصل الموت والخلاص من هذا العالم الجسماني، وهذا القطع يرافقه الألم حتماً.
فقد ورد في الحديث :
فو الله ما خرجت من عرق إلا انقطع ولا عضو إلا انصدع .
على هذا الاساس فان على الانسان ان يزهد في هذه الدنيا ، وهو لا يعني تحريم ما أحل الله، بل يعني الاكتفاء بالقليل والكفاف، لعلل لا يختلف اثنان على انها ممدوحة، منها المواساة لمن لا يجدون إلا القليل، وإقتصار شغل الروح بالجسد وحاجاته على ما هو ضروري، وكثير من العلل التي تجعل الإنسان المؤمن يرتقي في ملكوت السماوات لتحليه بالأخلاق الطيبة الكريمة وبالتالي تكشف له الحقيقة ويعرف الحقيقة.
فعلينا وضع هدف اساسي وهو الله وكل شيء من خلاله وكل التعاملات التي نقوم بها من خلاله.
فالاكل والشرب لأعيش وأؤدي ماعلي من واجب بامر الله ، والزوجة والاولاد احبهم بقدر طاعتهم له سبحانه واتقرب بهم اليه ، وكذلك كل شيء اخر ، فعندها لاتكون هذه الاشياء اوتادا تربطني بهذا العالم وتكون شاغلا للروح عن ارتقائها ، وعلائقا تؤذيها عند الموت بل يكون الانسان عندها كما قال علي عليه السلام في وصف نفسه :
وإنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً
لان هدفه هو الله ومحوره للتعامل هو الله سبحانه وتعالى وقد يتصور الانسان بان اختياره لله يسبب له ضررا ولكن حاشا الله ان يجعل له ضررا فيما رغب فيه اليه ، لان الانسان لايرى المنفعة الحقيقية ،
فقضية نبي الله ابراهيم عليه السلام مع ابنه اسماعيل عليه السلام هي خير مثال على ان من يفعل شيئا لحب الله ورضاه فان الله يعمل على رضا عبده ايضا متى ماكان العبد مطيعا له ، واما قضية الامام الحسين عليه السلام فهو كان قد ارتضى كل ماسوف يكون (خذ حتى ترضى) ، (ان كان دين محمد لم يستقم الا بقتلي فياسيوف خذيني) ، لانه كان يرى رضى الله في ذلك ، فالمتعة التي يحسها بطاعته لله تجعله لايحسب للالم حسابا ولا يحس به .
فالانسان اذا ارتبط بالله ولم يوثق روحه باوتاد في هذا العالم انطلقت الروح الى كمالاتها التي هيأها الله لقبولها اكثر من قابلية الملائكة ، على عكس من يضع الاوتاد في هذا العالم ، ويوثق روحه بها ، ويزيدها يوما بعد يوم ،
فانه يقتل روحه ويحجزها عن الانطلاق الى الله سبحانه وتعالى……… فضع حبالك بيد الله .
فسبحانك اللهم ما أحلمك وأعظمك مبدئا ومعيدا تقدست أسماؤك ،وجل ثناؤك ، وكرم صنائعك وفعالك .
((ملاحظة المقالة اعلاه عبارة ردود ومحاضرات وتوجيهات للسيد اليماني جمعت بتصرف وزيد عليها مارايته مناسبا للموضوع ))