بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين وسلم تسليماً
لقد ذكرت في الحلقة الأولى زعم فقهاء آخر الزمان بأنهم الطريق الموصل إلى الإمام المهدي (ع) وإيهام الناس بان الفقهاء مقطوع بنصرتهم للإمام المهدي (ع) وخارجين عن التمحيص و الغربلة التي يسقط فيها اغلب الناس ! وقد بينت في الأمر الأول الروايات التي تذم فقهاء آخر الزمان ذماً شديداً وتنص على أنهم أعداء الإمام المهدي (ع)، وهذا ما يفند زعمهم الموهوم. والآن ابدأ في بيان الأمر الثاني:
الأمر الثاني:
من أفظع ما عملوا هو أنهم اخضعوا قضية الإمام المهدي (ع) لفهمهم وعلمهم، أي إنهم جعلوا أنفسهم مقياساً وميزاناً لمعرفة الإمام المهدي (ع) ولابد أن يأتيهم الإمام المهدي (ع) بما يألفون ويفقهون، وحسب ما فهموه وقرروه مسبقاً وبأهوائهم عن كيفية قيامه (ع)، فإن جاء على خلاف تنظيرهم فسينكرونه ويفتون الناس بوجوب تكذيبه أو محاربته !!!
وفي هذه الحال يكون الإمام المهدي (ع) تابعاً لا متبوعاً، وإذا أراد أن يرسل ممهداً أو رسولاً عنه فلابد أن يَخضع ذلك الرسول إلى امتحان الفقهاء، أو لابد أن يكون ذلك الرسول منهم وإلا فهو لا يُلتفت إليه، ولذلك تجد عامة الناس لا تقنع أن يكون الممهد للإمام المهدي (ع) من غير الفقهاء، بل كل طائفة تريد أن يكون زعيمها هو الممهد والرسول والهادي إلى الإمام المهدي (ع)، وإلا فالموقف مُبَيَّت مسبقاً على تكذيبه ومحاربته حتى لو أتى والشمس بيمينه والقمر بشماله !
وهم على هذا الحال كما وصفهم أمير المؤمنين (ع) بقوله: (( … ووا أسفاه من فعلات شيعتي من بعد قرب مودتها اليوم كيف يستذل بعدي بعضها بعضاً المتشتتة غداً عن الأصل النازلة بالفرع المؤملة الفتح من غير جهته كل حزب منهم آخذ (منه) بغصن أينما مال الغصن مال معه… إلى أن قال (ع) : واعلموا إنكم إن اتبعتم طالع المشرق سلك بكم مناهج الرسول ( صلى الله عليه واله ) فتداويتم من العمى والصم والبكم وكفيتم مؤنة الطلب … )) الكافي ج8 ص 63 – 65.
في حين نجد أن وصايا الرسول (ص) وأهل بيته (ع) وأحاديثهم تماماً عكس أضغاث فقهاء السوء، حيث نجدهم أكدوا على مسألة التسليم للإمام المهدي (ع) وإن خرج على خلاف ما يظن الناس، وإن الأمر بيد الله يظهره كيف شاء، وإن البداء وارد في كثير من العلامات والدلائل التي روي أنها تسبق قيام الإمام المهدي (ع)، لا نجاة إلا بالتسليم والطاعة على أي حال:
عن أبي جعفر (ع) قال: (( إن قائمنا إذا قام دعا الناس إلى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله (ع) وإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء )) غيبة النعماني ص336 .
وعن مالك الجهني قال: قلت لأبي جعفر (ع) : إنّا نصف صاحب هذا الأمر بالصفة التي ليس بها أحد من الناس . فقال: لا والله لا يكون ذلك أبداً حتى يكون هو الذي يحتج عليكم بذلك ويدعوكم إليه )) غيبة النعماني ص337 .
فمن أين لفقهاء آخر الزمان معرفة أمر الإمام المهدي (ع) والباقر (ع) يصفه بأنه جديد وغريب ؟! وفي الحديث الثاني يقسم الإمام الباقر (ع) على أن الناس لا تعرف صفة الإمام المهدي (ع) وانه هو الذي يدعوهم إلى ذلك ويحتج عليهم به.
وعن أبي جعفر (ع) : ((…وإنما سمي المهدي مهدياً لأنه يهدي إلى أمر خفي…)) غيبة النعماني ص242-243 .
وعن الصادق (ع) قال: (( إذا قام القائم جاء بأمر غير الذي كان )) غيبة الطوسي 307.
وعن أمير المؤمنين (ع) في خطبة طويلة جداً قال (( … ويظهر للناس كتاباً جديداً وهو على الكافرين صعب شديد يدعو الناس إلى أمر من أقر به هـُدي ومن أنكره غوى فالويل كل الويل لمن أنكره……)) إلزام الناصب 2 /174-190.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( إذا قام القائم عليه السلام دعا الناس إلى الإسلام جديدا وهداهم إلى أمر قد دثر وضل عنه الجمهور وإنما سمي القائم مهديا لأنه يهدي إلى أمر مضلول عنه وسمي القائم لقيامه بالحق ) بحار الأنوار ج 51 ص 30.
وكل هذه الروايات تؤكد على أن الإمام المهدي (ع) يأتي بأمر خفي وجديد غير معروف ومضلول عنه، بل انه صعب شديد وعليه تتوقف الهداية والضلالة، فمن أين لميزان فقهاء آخر الزمان بمثل هذا الأمر حتى يضعوا أنفسهم أدلاء لمعرفة الإمام المهدي (ع) وأمره ؟!!!
بل إن الأمر أبعد من هذا، فحتى أخبار أهل البيت (ع) في كيفية قيام الإمام المهدي (ع) يمكن أن لا تقع ويأتي الأمر على خلاف ما أخبروا به لحكمة ما، أو قل على خلاف ظاهر كلامهم، ومع ذلك فلا يسع الناس إلا التسليم والإتباع وإلا فالسيف:
فعن ضريس قال: قال أبو جعفر (ع): ( أرأيت إن لم يكن الصوت الذي قلنا لكم أن يكون ما أنت صانع؟ قال: قلت: انتهي فيه والله إلى أمرك، قال: والله التسليم وإلا فالذبح وأهوى بيده إلى حلقه ) بصائر الدرجات :542 .
وعن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: ( كنا عند أبي جعفر محمد بن علي الرضا ( عليه السلام ) فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أن أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم ؟ قال: نعم. قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم. فقال: إن القائم من الميعاد، والله لا يخلف الميعاد ) الغيبة للنعماني ص 314 – 315.
وعن أبي حمزة قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: ( إن علياً عليه السلام كان يقول: إلى السبعين بلاء وبعد السبعين رخاء، فقد مضت السبعين ولم يروا رخاءا، فقال لي أبو جعفر عليه السلام: يا ثابت إن الله كان قد وقت هذا الأمر في السبعين فلما قتل الحسين عليه السلام اشتد غضب الله على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة سنة، فحدثناكم فأذعتم الحديث وكشفتم قناع السر فأخره الله ولم يجعل لذلك عندنا وقتا، ثم قال: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) بحار الأنوار ج 4 ص 120.
وعن الفضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ( أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيولد لك، فقال لسارة، فقالت: أألد وأنا عجوز ؟ فأوحى الله إليه أنها ستلد ويعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام علي، قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا وبكوا إلى الله أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى وهارون يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين ومائة سنة. قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: هكذا أنتم لو فعلتم لفرج الله عنا، فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه ) بحار الأنوار ج 4 ص 117 – 118.
وعن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر ( عليه السلام )، قال: ( قال : قلت له: لهذا الأمر وقت ؟ فقال: كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، إن موسى ( عليه السلام ) لما خرج وافداً إلى ربه واعدهم ثلاثين يوما، فلما زاده الله على الثلاثين عشرا، قال له قومه: قد أخلفنا موسى، فصنعوا ما صنعوا، فإذا حدثناكم بحديث فجاء على ما حدثناكم به، فقولوا: صدق الله، وإذا حدثناكم بحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به، فقولوا: صدق الله، تؤجروا مرتين ) الغيبة للنعماني ص 305.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( إن الله تعالى أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا، مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي أم مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام، فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى، أي لا يكون البنت رسولا يقول الله عز وجل والله أعلم بما وضعت، فلما وهب الله تعالى لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه، فإذا قلنا في الرجل منا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك ) الكافي ج 1 ص 535.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( كان في بني إسرائيل نبي وعده الله أن ينصره إلى خمسة عشر ليلة فأخبر بذلك قومه فقالوا: والله إذا كان ليفعلن وليفعلن فأخره الله إلى خمسة عشرة سنة وكان فيهم من وعده الله النصرة إلى خمس عشرة سنة فأخبر بذلك النبي قومه فقالوا: ما شاء الله فعجله الله لهم في خمس عشرة ليلة ) بحار الأنوار ج 4 ص 112.
وعن أبي حمزة الثمالي قال : قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: ( يا أبا حمزة إن حدثناك بأمر أنه يجيء من هاهنا فجاء من هاهنا فإن الله يصنع ما يشاء، وإن حدثناك اليوم بحديث وحدثناك غدا بخلافه فإن الله يمحو ما يشاء ويثبت ) بحار الأنوار ج 4 ص 119.
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: ( … إذا حدثنا كم بشيء فكان كما نقول فقولوا: صدق الله ورسوله، وإن كان بخلاف ذلك فقولوا: صدق الله ورسوله تؤجروا مرتين … ) بحار الأنوار ج 4 ص 99.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ( إذا قلنا في رجل قولاً، فلم يكن فيه وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك، فإن الله تعالى يفعل ما يشاء ) الكافي ج 1 ص 535.
وعن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ( قد يقوم الرجل بعدل أو يجور وينسب إليه ولم يكن قام به، فيكون ذلك ابنه أو ابن ابنه من بعده، فهو هو ) الكافي ج 1 ص 535.
وعن أبي عبد الله الجعفي قال: قال لي أبو جعفر محمد بن علي ( عليهما السلام ): ( كم الرباط عندكم ؟ قلت: أربعون قال: لكن رباطنا رباط الدهر ومن ارتبط فينا دابة كان له وزنها ووزن وزنها ما كانت عنده، ومن ارتبط فينا سلاحا كان له وزنه ما كان عنده، لا تجزعوا من مرة ولا من مرتين ولا من ثلاث ولا من أربع فإنما مثلنا ومثلكم مثل نبي كان في بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إليه أن ادع قومك للقتال فإني سأنصرك فجمعهم من رؤوس الجبال ومن غير ذلك ثم توجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى انهزموا، ثم أوحى الله تعالى إليه أن ادع قومك إلى القتال فإني سأنصرك، فجمعهم ثم توجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى انهزموا، ثم أوحى الله إليه أن ادع قومك إلى القتال فإني سأنصرك فدعاهم فقالوا: وعدتنا النصر فما نصرنا فأوحى الله تعالى إليه إما أن يختاروا القتال أو النار، فقال: يا رب القتال أحب إلي من النار فدعاهم فأجابه منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر عدة أهل بدر فتوجه بهم فما ضربوا بسيف ولا طعنوا برمح حتى فتح الله عز وجل لهم ) الكافي ج 8 ص 381 – 382.
أنا أعلم أني قد أكثرت من ذكر الروايات ولكنها أنوار أهل البيت (ع)، وهي نور على نور، وعسى أن يتخذها من يطلب الحق مشعلاً يضيء به الظلمات أو تكون ذكرى للمؤمنين.
إذن فقضية الإمام المهدي (ع) لا يمكن أن تخضع للتكهنات والتخرصات بل لا يمكن أن يجزم بأنها تكون وفق أخبار معينة اللهم إلا أن تكون الأخبار على نحو الجزم الذي لا يخضع للبداء، فمن ذا الذي يمكنه أن يُنصِّب نفسه هادياً ودليلاً ومُعرِّفاً بقضية الإمام المهدي (ع) إن لم يكن معصوماً من السماء ؟!!
بل إن مسألة قيام الإمام المهدي (ع) ووقتها وكيفيتها قد تكون من أصعب البلاء والامتحان، فقد تأتي وفق ما ذكر في الروايات وقد تأتي على خلاف بعض أو كل الروايات، وهذا البلاء والامتحان عام للجميع لا يستثنى منه عالم ولا جاهل ، بل قد يكون العلماء هم الأكثر سقوطاً في الامتحان، وهذا ما نصت وأشارت إليه عدة روايات ذكرت بعضها في الحلقة الأولى من هذا الموضوع، فإذا كان فقهاء آخر الزمان عاجزين عن هداية أنفسهم فكيف يهدون غيرهم ؟! ففاقد الشيء لا يعطيه، فلينقذوا أنفسهم أولاً ، ثم لكل حادث حديث، ولا يتوقع أحد أني لا أتمنى لهم الهداية إلى نصرة الإمام المهدي (ع) بل أتمنى ذلك لهم ولكل البشر، فلا عاقل يفرح بضلال الناس وخسرانهم، قال تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } القصص 56.
وتكملة الموضوع في الحلقة الثالثة إنشاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين، ولعنة الله على مخربي شريعتهم إلى يوم الدين.