الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الأئمة والمهديين سلم تسليماً
القداسة هي الطهارة، وتتعلق بالروح والمعنى .. وحتى بالمادة، وبالنسبة للانسان فالاساس فيها هو طهارة الروح عن شوائب الكفر والشرك والأنانية ورذائل الأخلاق، وبهذا المعنى فالقداسة مفهوم مشكك، أي متفاوت النسبة التحصيلية بالنسبة للأفراد.
والقداسة الحقيقية هي التي تكون أمام الله تعالى، وتترتب عليها القداسة أمام الناس، ولا عكس؛ أي لا يمكن أن تكون قداسة حقيقية مبنية على القداسة أمام الناس، لأن القداسة أمام الناس لا حظ لها من الحقيقة، بل هي النجاسة بعينها، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما يقال، ولكن بما أن الحكمة الإلهية اقتضت ستر بواطن الأشياء وحقائقها عن عموم الناس، تراهم يحسبون النجاسة قداسة والعكس أيضاً.
وسعي الانسان نحو القداسة مرتهن بنيته، فكلما كانت النية خالصة لله تبارك وتعالى كلما فاز الانسان بحظ أوفر من الطهارة والقداسة، ويعترض الانسان في هذا الطريق آفتان خطيرتان جداً؛ وهما العُجب والرياء، والعجب هو أن يستعظم الانسان ويُعْجَب بعباداته وطاعاته وأعماله، فيسكر من غير شراب، ويرى نفسه ملكاً ينبغي للناس أن تقبل يديه وتتبرك بتراب رجليه، وهو لا يعلم بأنه قد انتكس في الظلمات وشابه الشياطين المردة.
وأما الرياء فهو مراءات الناس بالعبادة والقول والفعل، أي أن تكون نيَّة الإنسان هي السمعة أمام الناس، وبغية العلو والسمو في أعينهم، وكل من العجب والرياء نسبيان، أي تختلف نسبتهما من انسان الى آخر، ومهما قلتْ النسبة فهي شر مستطير، ينبغي للمؤمن أن يستعين بربه ويسعى جهده في البراءة من هذا الداء المقيت، عسى أن يتقبله الله ويعفو عن تقصيره بكرمه وجوده، وبملاحظة ذلك ربما يتضح شيء من قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يوسف:106.
فالمقدس الحقيقي يكون حرصه على تحري كل ما يرضي الله تعالى، وأن يجده الله حيث أمره ويفقده حيث نهاه، والمقدس المزيف يكون حرصه على تحري كل ما يرضي الناس ويزخرف صورته أمامهم، وأغلب من يبتلى بمرض القداسة المزيفة هم رجال الدين الدجالون، الذين استهواهم حب الجاه والأتباع والأموال والسمعة والاحترام الذي اعتاد الناس على ابدائه لرجل الدين، باعتبار انه يمثل القدس والطهارة والهدى السماوي.
ويخف على هؤلاء المزيفين التظاهر بالعبادة والخشوع والطهارة، ما دام ذلك بمرأى من الناس، بل تجدهم في نشوة لا مثيل لها وهم يرون الناس تتبرك بهم وتقبل أيديهم وتلهج بذكرهم، ولكن إذا وجدوا ما يضرهم ويخالف هواهم من الدين كالجهاد والزهد والايثار والعمل الشاق، تجدهم يستبسلون في التأويل والالتواء من أجل تحريف الدين لكي يوافق أهواءهم وترفهم، لأنه إن بقي النص الشرعي على حاله فسيظهرون أمام الناس على أنهم مخالفون للتعاليم الإلهية، وحينئذ لا توجد عندهم إلا ثلاثة خيارات؛ الأول أن يتركوا التظاهر بالدين والقداسة لأنهم ليسو من أهلها ولا طاقة لهم بالنهوض باعبائها، وهذا مما لا يستسيغونه بعد أن ذاقوا لذة صدارة المجالس والجاه والاموال والأتباع، والخيار الثاني أن يستأصلوا النص من أساسه ويحذفوه بالمرة، وهذا ليس متاحاً دائماً وخصوصاً النصوص التي ثبتت عند الناس ولقرون عدة، كالقرآن الكريم مثلاً والسنة الثابتة، والسيرة المشهورة المتواترة، فلا يبقى أمامهم إلا الخيار الثالث؛ وهو تأويل معاني النصوص الشرعية لتوافق أهوائهم ورغباتهم.
فتجد رجل الدين الجبان مثلاً، يقرأ القرآن من أوله الى آخره لا يجد آية تحث على الجهاد أو توجبه، وإن وجد فسيبذل كل ما بوسعه لاقناع نفسه ومن اتبعه، في أن لها تأويلاً غير معناها الظاهري، أو أنها كانت في الزمن الأول ولا تشمل عصرنا الحالي .. وتجد رجل الدين البخيل الجشع لا يستسيغ سماع الآيات والروايات التي تنص على أن من أهم صفات المؤمن هو الكرم والجود والايثار، وإذا قُرأت عليه تلك النصوص فهي كرشق السهام في أذنيه، أو انه يقرأها على الناس ولكنه مستثنى منها وغير مخاطب بها !
بينما نجد المقدس الحقيقي لا يتزحزح أبداً عن تطبيق التعاليم الإلهية، وإن استلزم ذلك تفرق الناس عنه، أو التضحية بماله وجاهه وولده ونفسه، لأنه يرى كل ذلك لا يمكن أن يساوي جزءاً بسيطاً من نعم الله تعالى عليه، وعرف مدى تفاهة الدنيا بأسرها في قبال رضا الله تبارك وتعالى، لأنه تقدس وتطهر عن الأنا وحب الذات وعن العجب ومراءات الناس.
فالقدس والطهارة أمر باطني بالنسبة للإنسان، نعم قد يظهر هذا الباطن على الظاهر، ولكن ليس بقصد مراءات الناس ونيل اعجابهم واحترامهم والرفعة في عيونهم، بل الله من يظهر ذلك مكافأة للعبد، ولكي يُقتدى به وتُتبع آثاره، ولذا نجد زين العابدين (ع) يقول في دعائه:
(ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها).
والميزان الذي تعلمناه من يماني آل محمد (ع)، هو أن يوزن الإنسان أعماله وأفعاله ونيته بـ (هو أو أنا)، وبعبارة أخرى: إن كان العمل أو القول أو حتى التفكير، لله وحده لا شريك له، فهو قدس وطهارة، وإن كان لذات الإنسان ونفسه [الأنا]، فهو نجاسة وتسافل ينبغي للإنسان أن يترفع عنها، ولذلك نجد الرسول محمد (ص) وأهل بيته يؤكدون على هذا المعنى بقولهم: (إنما الأعمال بالنيات)، لأن العمل وإن كان ظاهره الخير فهو شر لصاحبه إن لم يقصد به وجه الله تعالى.
فمن جعل همَّه الرفعة والعلو في أعين الناس، خاب فأله ولا يحصد إلا الخسران، وهو عند الله من الممقوتين الملعونين، وإن كان عند الناس من المحمودين المقدسين، وأما من كان همَّه رضا الله تعالى والفوز بقربه، فهو المقدس عند الله تعالى وعند ملائكته وأوليائه، وإن كان عند الناس مذموماً ملعوناً، بل إن الله تعالى سوف يُعلي شأنه في الدنيا عاجلاً أم آجلاً، كما في قول أمير المؤمنين (ع):
(من كانت همَّته آخرته كفاه الله همَّه من الدنيا ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله تبارك وتعالى فيما بينه وبين الناس).
فحتى لو أراد الإنسان أن يصلح ظاهره بالتقوى والورع، فلابد أن يكون قربة لله تعالى، لا طلباً لمرضات الناس والعلو عندهم، وللأسف الشديد أن أكثر الناس لا تنفك عن الحرص الشديد على طلب العلو في أعين الناس، فتجد ما أحسن ظاهرهم وعلانيتهم، وما أخبث وأقذر باطنهم وسريرتهم، كما يقول المصطفى محمد (ص):
(سيأتي على أمتي زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا ولا يريدون به ما عند الله ربهم، يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف يعمهم الله منه بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم).
بل قد تجد الإنسان منهمكاً في العمل بالطاعات ونصرة الحق، ولكن النية هي [الأنا] والعياذ بالله، فهو يجاهد لكي يقال عنه شجاع، ويطلب العلم لكي يقال عنه عالم، ويصلي ويصوم … لكي يقال عنه عابد .. وهكذا .. وهذا الإنسان في حقيقته وباطنه مشرك يتسافل في الظلمات شيئاً فشيئاً حتى يكون نظيراً لإبليس الذي تكبر على نبي الله آدم بقوله: (أنا خير منه)، فلو كانت عبادة أبليس لله تعالى لزادته ذلاً وخضوعاً وتواضعاً، ولما تكبر أو حدَّث نفسه بالتكبر على مخلوق مهما كانت بساطته.
نسأل الله أن يُعيننا على أنفسنا بما أعان ويعين به الصالحين على أنفسهم .. والحمد لله وحده.
………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………….
(صحيفة الصراط المستقيم-العدد22-السنة الثانية-بتاريخ 21-10-2010م 15 محرم 1432 هـ.ق)