ينشغل البرلمانيون المنتخبون بطريقة القوائم المغلقة ، والمغلفة بسيليفون الحصص الطوائفية ، وبانهماك لا يخلو من تسلية أو ظرافة ، ولا يفتقر أبداً لميلودراما مشاعر الحقد الممتزجة بعاطفة الود المنافق ، ينشغلون لا بمسألة البطاقة التموينية ولا الكهرباء ولا الفساد المستشري في كل مفاصل دولة أعراقستان ، وطبعاً ليس بمسألة القتل والتفجير والدماء التي تجري أنهارها الحمراء في الشوارع ، والرجاء أن لا يظنن أحد بأن السادة الكرام أعضاء مجلس النواب العراقي المنتخب قد يصدعون رؤوسهم الجميلة بتذكر المهجرين ، أو القابعين في مطامير السجون دون حكم أو محاكمة ، وباختصار ليس أبداً بشيء من هذه المشكلات التافهة التي لا تهم غير المواطن العادي الذي لا يتمتع ببعد نظر ولا ثقافة جمالية تتيح له اقتناص ذلك البعد الدراماتيكي الممتع الذي توحي به كلمات السياسيون العراقيون وهم يناضلون باستبسال منقطع النظير عن وجهات نظر أحزابهم .. ينشغل البرلمانيون – ولله الحمد – بمسألة غاية في الأهمية الدستورية ( هل يُقدر، وهل يفهم المواطن الساذج الأهمية الدستورية ؟ ) هي مسألة اختيار رئيس يدير جلسات البرلمان ، ويضرب على أيدي المشاكسين المتظرفين والوكحين المتشيطنين من محترفي العمل السياسي خشية تكدير هدوء الجلسات !!
يتحدث أعضاء حزب الحكيم، ويشاطرهم الرأي أعضاء الحزب الإسلامي ( يا لها من تسمية مخاتلة ! )، والحزبان الكرديان ظهير لهما ، يتحدثون عن عراقيل يضعها حزب الدعوة ولفيف آخر من الأحزاب الثانوية بقصد الالتفاف على قواعد اللعبة السياسية التي حددت المنصب لجبهة التوافق السنية كإقطاعية دائمة لا ينازعها فيها إلا داعية فتنة أو متجانف لإثم ، ويرد الطرف الآخر ( حزب الدعوة ) : إن جبهة التوافق لا تعني الحزب الإسلامي حصراً ، ومن يصر على هذا المعنى الهرطوقي دستورياً هو من يحاول تخريب لعبتنا السياسية المسلية التي حددت المنصب للمكون السني لا للحزب الإسلامي ، ويجترح لها قوانين ما أنزل بها بريمر (اللاعب الأمهر ) من سلطان .
هذه باختصار هي الحبكة التي تدور حولها حكاية البرلمان العراقي ، وهي حبكة يعي أبعادها الفنية الممتعة فضلاً على السياسيين العراقيين ، الصحفيون الذين لم تطأ أحذيتهم الأنيقة تراب الوطن ، فهم يدركون أكثر من غيرهم ضرورة النظر إلى الخلافات الديمقراطية بمعزل عن المضامين الإجتماعية التي يمكن أن تعكسها أو تنطوي عليها مما يتضارب مع المنهج التكنوقراطي البنيوي ، ويقدرون ضرورة عدم تعكير صفو حلاوة تأمل الأشكال القانونية باستدعاء الواقع اليومي للناس الملبد بالمنغصات ومفردات البطاقة التموينية الخرافية ( تصوروا المهزلة ، الناس يريدون من أعضاء البرلمان أن يتحدثوا عن العدس والتمن والفاصوليا ، ويتركوا الحديث بالمصطلحات المهمة التي لم يسمع بها آباؤهم من قبل ، من قبيل : آليات الدستور ، الكوتا ، نقطة نظام ، والعبارة الساحرة التي لا يملون ترديدها ، ويطيب لهم دائماً تذكرها ؛ ألوان الطيف العراقي ) !
تلك هي المشكلة كما يقول شكسبير على لسان هاملت ؛ البرلمانيون ( المنتخَبون طبعاً ) يعيشون حالة من القطيعة الفكرية والإجتماعية مع كل ما يمت بصلة للناس ( المنتخِبين ) ، ولعلهم – وهنا معضلة أخرى لم يلتفت لها شكسبير – يلقون باللائمة على الناس ، ويحاولون دفعهم للقلق من مستوياتهم الثقافية المتدنية التي لا تتيح لهم مواكبة القفزة الثقافية الخطيرة التي طار بها أعضاء البرلمان إلى عالم آخر يضاهي بجماله عالم الخيال الخلاب في حكايات الديمقراطيات العتيدة التي يعرفها الغربيون ( حيث كان يعيش أغلب أعضاء البرلمان ) . وفي مقابل هذا الاغتراب الذي يفصل وعي البرلمانيون عن حركة الشارع اليومي وهمومه ، يشعر العراقيون بأنهم لا يكادون يفهمون هؤلاء البرلمانيين ، فهم يتعجبون كيف إن هؤلاء لا يشعرون بهموم واقع ثقيل يختطف كل مراكز وعيهم كما لو كان حجر صلد يشدخ رؤوسهم كل يوم وكل ساعة ! وثمة مشكلة أخرى لم يلتفت لها شكسبير هي أن الناس حين يفيض غضبهم يراوغون أنفسهم من حيث لا يشعرون فيصبون جام ثورتهم على رأس الكتل الكونكريتية التي تفصل البرلمانيين عنهم ، وهم يظنون أنهم بسخريتهم هذه ينتقمون حقاً من هؤلاء المتكبرين ، ولكنهم في الحقيقة يضحكون على أنفسهم ، فالبرلمانيون قد تدربوا جيداً على فنون القول ويستطيعون بسهولة بالغة ربط الكتل الكونكريتية وما ترمز له من لعبة سياسية بواقع الإرهاب والبعث والجنيات المتربصة ، وبذلك يردون كيد الشعب إلى نحره .
إن ما يغمض الناس عيونهم عن رؤيته هو أنهم لا يربطون المآسي التي يعيشون تفاصيلها اليومية بأصل اللعبة السياسية التي رهنوا مصيرهم إليها ، وفوضوا أمرهم فيها إلى السيستاني والحكيم والمالكي والهاشمي والطالباني ، دونما قيد أو شرط ، وهم اليوم وكل يوم يجنون جريرة ما صنعت أيديهم .
فالبرلمانيون ومن على شاكلتهم من شذاذ الآفاق السياسيين الآخرين وجدوا شعباً يمكن تزوير إرادته ، وتزييف وعيه بأتفه الوسائل .. شعب ما إن تعبئ الزنبرك المربوط بمؤخرة دمى النجف الصامتة لتنطق ببضع كلمات من قبيل ( انتخبوا ) ، أو ( فشل اللعبة السياسية يعني تسلط الأشرار عليكم ) حتى يهبوا عن بكرة أبيهم لا يلوون على شيء ليضعوا في الصناديق البلاستكية السم الذي سيتجرعون زعافه .. شعب يموت يومياً وهو يغني لقاتله ببله عجيب ( كل احنا فداك يا أبو محمد رضا ) أو ( عبدالعزيز .. طرن طرن ، قائدنا .. طرن طرن ) .
Aaa_aaa9686_(at)_yahoo.com