الإفتتاحية

الكلمات تفقد هويتها – توقيع السمري أنموذجاً

يُقال أن الكيميائيين العرب القدامى كانت تستحوذ عليهم فكرة تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نبيلة كالذهب والفضة. ويقال أنهم قد صرفوا سنوات عزيزة من أعمارهم بحثاً عن المعادلة الصعبة التي علقت بجدران مخيلاتهم مثل نواة شجرة البمبر اللزجة، ولكن دون جدوى!

حلم الكيميائيين العرب، الذي يبدو أنه قد تسرب لمختبراتهم من حجرات السحر ذات الروائح المخدرة، وجد طريقه أخيراً لأذهان بعض الفقهاء فحاولوا تطبيقه على الكلمات بقصد إفراغها من دلالاتها الأصلية، وتعبئتها بدلالات أخرى، بطريقة فنتازية تثير السخرية حقاً.

فمنذ الآن يمكنكم أن تتصوروا الكلمات ممددة على سرير بروكست لتُشذب، أو تقطع أطرافها التي لا يسعها السرير! ويمكنكم كذلك أن تتصوروها وهي تشوى على نار الفحم، أو تطرق بمطارق ضخمة، وستفاجئون حتماً حين ترون كلمة مثل (بطاطا) وقد أخذت معنى جديداً تماماً، تكشفه الحكاية التالية: ستبعث ابنك إلى السوق ليشتري لك كيلو من البطاطا، وبعد إعادة الدروس المملة على مسامعه (انتبه، لا تشتري البطاطا الخضراء، واحذر من تلك اللينة ..الخ) ستُفاجئ بأن الولد يجلب في الكيس الأسود طماطة حمراء!

–         ما هذا يا ولد؟

–         بطاطا أبي.

–         ولكنها طماطة!

–         لا أبي بطاطا. وآن لك أن تترك عنادك القديم، فالكلمات فقدت معانيها القديمة، وحلت فيها معانٍ جديدة، على طريقة تناسخ الأرواح!

قد ترون هذا الكلام سخيفاً، ولكن الواقع سخيف أيضاً! وإلا بربكم كيف يأتي فلان من الفقهاء ليزعم أن كلمة المشاهدة في توقيع السمري تعني (السفارة)؟ ألا يعني هذا إن الكلمات قد فقدت معانيها؟

وإذا كان معنى (من ادعى المشاهدة … فهو كذاب مفتر) هو إن من يدعي السفارة كذاب مفتر فدعوني استحلفكم بالله مرة أخرى، لأسألكم: ما عسى الإمام عليه السلام يقول إذا أراد تحذيرنا من مدعي المشاهدة؟ ألعله يقول: (من ادعى السفارة … فهو كذاب مفتر)؟ ومن أراد أن يقول (كتاب) يمكنه أن يقول (بصل) مثلاً، وهكذا دواليك حتى لا يبقَ منطق، ولا سبيل للتفاهم بين الناس، فالألفاظ أُفرغت من معانيها، وفقدت هويتها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

والحق إن بعض علماء الشيعة الذين قالوا بإمكان أن يكون المراد من المشاهدة الواردة في توقيع السمري هو السفارة، إنما قالوا به لما أعياهم الجواب، ولم يجدوا ما يوفقون به بين الأخبار الكثيرة جداً الدالة على وجود أناس شاهدوا الإمام عليه السلام، وبين ما ورد في التوقيع من تكذيب مدعي المشاهدة.

وقد كان يكفيهم أن يجيبوا بمثل ما أجاب به المحقق النهاوندي، أو يتركوا البيان لأهله، أو يسكتوا على الأقل، ولا يتقولوا في دين الله بآرائهم.

أما جواب المحقق النهاوندي فمفاده إن المراد من تكذيب مدعي المشاهدة هو تكذيب من يدعي أن الإمام قد ظهر للعيان وأنه شاهده، وأن بإمكان الجميع بالتالي أن يروه، مع أن علامتي الظهور القريبتين (السفياني والصيحة) لم تقعا، فهذا وحده من ينصرف إليه التكذيب. فقد قال في كتابه (العبقري الحسان):

((لا معارضة بين توقيع السمري وقصص اللقاءات حتى يُحتاج إلى الجمع، لان التوقيع الشريف بصدد منع دعوى الظهور العلني للإمام، وذكر المشاهدة في التوقيع بمعنى الظهور والحضور كما في الآية ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾. والقرينة على المعنى أمران: الأول قوله: فلا ظهور إلا بعد الهرج والمرج، والفتنة والفساد. والثاني قوله ألا من ادعى المشاهدة – أي الظهور، ظهور الإمام – قبل خروج السفياني والصيحة من علامات الظهور، وعلى هذا لا تعارض أبداً بين التوقيع الشريف وبين الحكايات …)).

ويؤكد كلام النهاوندي ما رواه الشيخ الصدوق عن أبي خالد الكابلي قال: ((دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام فقلت له : يا ابن رسول الله أخبرني بالذين فرض الله عز وجل طاعتهم ومودتهم … إلى قوله: ثم تمتد الغيبة بولي الله عز وجل الثاني عشر من أوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة بعده. يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف، أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا، والدعاة إلى دين الله عز وجل سرا وجهرا. وقال علي بن الحسين عليهما السلام: انتظار الفرج من أعظم الفرج)) [كمال الدين وتمام النعمة – الشيخ الصدوق – ص 319 – 320].

فقوله: (ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة) يصطنع مقابلة بين الغيبة والمشاهدة، فيكون معنى المشاهدة بدلالة مقابلتها للغيبة هو الظهور، ولا علاقة للأمر بالسفارة لا من قريب ولا من بعيد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى