أخبار سياسية منوعة

حزب الدعوة طيران بلا أفق

كان التحدي الفكري الذي مثلته الأفكار الماركسية دافعاً قوياً ليؤسس السيد محمد باقر الصدر منظومته الفكرية والحركية المتمثلة بحزب الدعوة وسلسلة الكتب الفكرية التي ألفها ( فلسفتنا ، إقتصادنا ، المدرسة الإسلامية ) ، ولكن السيد الصدر في الوقت الذي كان يتطلع فيه لتأسيس دفاعات قوية تقي الإسلام هجمات الخصوم الفكريين ، وتبرزه نداً فكرياً في ساحة الصراع كان أيضاً – وبغير شعور منه – يؤسس لجذر الداء غير المرئي ، الذي سيستفحل فيما بعد ليشكل إنحرافاً كبيراً وخطيراً يهدد الكيان الإسلامي الذي لا أشك لحظة في إخلاصه له .

كان الخطأ القاتل الذي لم يلتفت له السيد الصدر يتمثل بالمنهجية الجديدة التي أراد استزراعها ، وتطويع كل التربة الإسلامية بثرائها الواسع لتصب في عودها الضيق ، فالسيد الصدر الذي أراد الإستفادة من علوم العصر والفلسفة أوحت كتبه من حيث أراد أو لم يرد بإمكانية تأطير الإسلام بالفلسفة وعلوم العصر بحيث تكون هي الوعاء الأكبر الذي يستوعب الإسلام ، وكانت الفكرة – النتيجة التي تكرست فيما بعد تتمثل بالإعتقاد الشائع بين المفكرين المسلمين بأن مفتاح فهم الإسلام وتفعيله بالدرجة الأولى يكمن في ترجمة أفكاره ومفاهيمه وفقاً لمنطق العصر السائد ، الأمر الذي أفقد الإسلام الكثير جداً من قيمته وإختلافه وخصوصيته ، وأخضعه لفهم العقول القاصرة ، بل أخضعه للفهم العقلي بحدوده القاصرة .

إن فكر السيد الصدر – بوصفه المنظر والأب الروحي لحزب الدعوة – قد حدد المسارات المستقبلية التي يمكن أن يسلكها الحزب ، وكان للتجربة القاسية التي عانى منها الحزب في العراق على يدي النظام الطاغوتي ، وما أعقبها من تجربة معاناة أخرى صادفها في إيران الدور الكبير في تحفيز كل الكوامن الفكرية التي انطوى عليها منهج السيد الصدر المشار إليها فيما تقدم حتى لقد أصبحت هذه الكوامن والإيحاءات بنظر كوادر حزب الدعوة ضرورات فكرية .

فالقسوة والعنف الطاغوتي المفرط الذي تعامل به نظام صدام مع الحزب ولد ردود أفعال تمحورت فكرياً حول فكرة إعادة النظر في مجمل التجربة والتوجهات ، وفي هذا الصدد رأى الحزب إن الضرورات العملية تستدعي التخلي عن الكثير من الأفكار التي ينفرد بها التشيع مقترباً في ذلك من نظرة أبناء العامة ، بل إن رأيه استقر عند فكرة غاية في الخطورة تمثلت في نظرته للخلاف المذهبي على أنه واقعة تأريخية ينبغي طمرها وتجاوزها ، والتركيز على الواقع السياسي الحاضر حسياً ، وكانت هذه الفكرة بداية تخلي الحزب عن فكرة الإصلاح أو التغيير الجذري التي يستدعيها واقع المسلمين وحقيقة دينهم على حد سواء . وبتخلي الحزب عن هذه الفكرة يكون في الحقيقة قد تنازل عن دوره ووظيفته الفكرية ، ولن يكون بالنتيجة سوى حزب يطمع بالوصول الى السلطة شأن كل الأحزاب التي يشكلها المغامرون من ذوي التطلعات الأنانية .

وفي منفاه الإيراني صادف الحزب واقعاً سياسياً دينياً مثلته فكرة ولاية الفقيه التي تمثل في حقيقتها تشكلاً كاذباً للواقع العقائدي والسياسي الإسلامي . فولاية الفقيه أرادت أن تكون تحقيقاً للنظام الإسلامي في عصر الغيبة ، وكان منطلقها يتمثل بالضرورة التي تحتم وجود حاكم وحكم يسيران الناس ويحفظان مصالحهم ، ولكن فكرة ولاية الفقيه كانت تنطوي على مغالطة غريبة ، إذ كان من المنطقي أن يتجه فكر المعتقدين بهذه الضرورة – وقد دلت بعض الأحاديث عليها – الى التفكير بحتمية وجود حجة لله منصوص عليه أو نائب خاص للإمام المهدي (ع) وبهذا يحفظون لنظرية النص الإسلامية وزنها الحقيقي ، ولكنهم بدلاً من هذا ابتدعوا فكرة النيابة العامة غير المنصوص عليها ، ولأنهم غير منصوص عليهم وغير مؤيدين بالنتيجة من السماء أظهرت التجربة خطلهم ، ولم يجدوا للحفاظ على دولتهم غير التسلط والدكتاتورية في فرض رأيهم ورؤاهم ، وهذا ما عانى منه الحزب كثيراً ، إذ كان من المفروض على الحزب أن يؤمن بولاية الفقيه وأن ينطوي بالنتيجة تحت جناح الدولة الإيرانية ، ويأتمر بأوامرها ، ويقدم مصلحتها على مصلحة العراق ، فالدولة الإسلامية أولاً وقبل كل شئ ، على حد تعبير الشعار المرفوع .

كان الحزب في هذه الفترة قد تعرض على المستوى التنظيمي الى انشقاق بعض كوادره التي آثرت الانضمام الى ما عُرف بالمجلس الأعلى الذي شكلته إيران ، كما إنه واجه على المستوى الفكري رفضاً إيرانياً لفكرة التحزب نفسها ، وكانت ردة الفعل هي الإبتعاد عن إيران وعن فكرة ولاية الفقيه والإرتماء أكثر فأكثر في أحضان التوجه الفكري العلماني ، ولاسيما فكرة الديمقراطية وحرية الرأي التي رأى فيها الحزب مخرجاً مناسباً من تعنت المؤمنين بولاية الفقيه . ولم يكن هذا الإبتعاد فكرياً فحسب ، بل لقد توازى معه ابتعاد حسي تمثل بهجرة الكثير من كوادر الحزب الى البلدان الغربية . وفي تجربته الغربية أنتج الحزب قطيعته الكاملة مع الفكر الإسلامي ، ولم يعد ما يربطه به سوى الوصف الإستخفافي الملحق باسم الحزب ، فالدعوة اليوم حزب علماني بكل ما للكلمة من معنى ، وكل سياساته ومواقفه تصرخ بهذه الحقيقة إبتداءً من التحاقه بقطار العملية السياسية الخيانية ومروراً بقبوله بالدستور العلماني ولا تنتهي الدلالات بتخليه عن نظامه الداخلي ذي المراحل الثلاثة ولا بنكوصه عن دوره التثقيفي – الفكري .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى