تقدّم علينا في الحلقة الأولى أنّ كلمة أهل في القرآن استعملت في موارد متعددة، ومن هنا نشأت عدّة أقول في تحديد المراد من أهل البيت في آية التطهير، وقد تقدّمت تلك الأقوال، وفي هذه الحلقة نتعرّض للفظ الأهل في اللغة، كما نتعرّض لكلمة بيت، وغيرها من الأمور التي لها علاقة في تشخيص المصداق المراد بأهل البيت في آية التطهير بالخصوص.
الأهل في اللغة:
قال الزبيدي في تاج العروس: أهل الرجل: عشيرته وذوو قرباه، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا ﴾ تاج العروس: ج14/ص35.
وقال الراغب: أهل الرجل: من يجمعه وإياهم نسب أو دين، أو ما يجري مجراهما، من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل: من يجمعه وإياهم مسكن واحد، ثم تجوز به، فقيل: أهل بيته: من يجمعه وإياهم نسب أو ما ذكر، وتعورف في أسرة النبي مطلقاً. مفردات غريب القرآن: ص29.
وقال صاحب الصحاح: وآل الرجل أهله وعياله، وآله أيضاً: أتباعه. مختار الصحاح: ص25.
المراد من كلمة بيت:
جاءت في القرآن الكريم في مواضع عديدة في كتاب الله وسنة النبي ، وأُريد أمرين:
الأول: البيت النسبي، وهو جماعة من الناس تجمعهم رابطة القربى ويكونون إما جزء العشيرة أو القبيلة، قال تعالى: ﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾، والمراد من البيت في الآية نبي الله لوط وابنتاه.
وجاء أيضاً بمعنى الجزء من القبيلة، فعن ابن عباس، قال: قال رسول الله : إنّ الله U قسم الخلق قسمين: فجعلني في خيرهما قسمة، وذلك قوله U في ذكر أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثاً، فجعلني في خيرها ثلثاً، وذلك قوله U: ﴿ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ۞ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ۞ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾، وأنا من السابقين، وأنا خير السابقين، ثم جعل إلاّ ثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله U: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، فأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله جل ثناؤه ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً، فجعلني في خيرها بيتاً، وذلك قوله U: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾ أمالي الشيخ الصدوق: ص 729.
الثاني: البيت المادي المعد للسكنى أو بيوت العبادة .
قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ﴾، ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾، ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.
أهل البيت في القرآن:
جاء لفظ أهل البيت في القرآن الكريم مرتين:
الأولى: في قوله تعالى: ﴿ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾.
ويراد بأهل البيت في هذه الآية أهل بيت نبي الله إبراهيم u.
الثانية: في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾.
والمراد بها أهل بيت النبي محمد .
وأطلق المسلمون لفظ ( أهل البيت ) و ( آل البيت ) على أهل بيت محمد فقط، حتى صار اللفظ علماً عليهم لا يفهم منه غيرهم إلاّ بالقرينة.
يقول الشيخ الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الآية الثالثة والثلاثون من سورة الأحزاب: (اتفقت الأمة بأجمعها على إنّ المراد بأهل البيت في الآية أهل بيت نبينا ….).
وننقل أهم رأيين ذُكرا في هذا الموضوع:
الرأي الأول: المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة.
روى السيوطي في الدر المنثور أنّ عكرمة كان يقول عن الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب : ( من شاء باهلته أنّه نزلت في أزواج النبي ).
فتكون الآية خاصة بنساء النبي .
فلقد أصر عكرمة على هذا القول حتى أنه يطلب مباهلة من خالفه فيه ، فكانت عند عكرمة بواعث نفسية تدفعه نحو هذا الإصرار، والظاهر أن ذلك نشأ من عقيدته التي تبناها، حيث أعتنق مذهب الخوارج، ولهؤلاء موقف معروف في التاريخ من الإمام علي u، فلو التزم بأنّ آية التطهير نزلت في أهل البيت بما فيهم علي u لكان هذا اعتراف منه بعصمته ولانهار عنده أساس عقيدته التي سوغت لهم الخروج عليه ومحاربته، بل وقتله u.
والذي يظهر أن الرأي السائد على عهده خلاف رأي عكرمة، كما تشعر بذلك الرواية الأخرى التي ينقلها صاحب الدر المنثور عن عكرمة في معرض ردّه على غيره، قال: ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي . الدر المنثور : ج5/ ص189.
ولقد نُسب هذا الرأي إلى ابن عباس، إلاّ أن الذي نسبه إلى ابن عباس هو عكرمة أيضاً، فالمصدر الوحيد هو عكرمة، وهذا من الموارد التي كذب بها عكرمة على ابن عباس، فقد عرف عن عكرمة الكذب على ابن عباس، وأصبح كذبه عليه مضرباً للأمثال، فعن ابن المسيب أنه قال لمولى له اسمه برد: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس. وعن ابن عمر أنه قال ذلك أيضاً لمولاه نافع. مقدمة فتح الباري:ص425، عمدة القاري: ج1/ص8.
وقد حاول علي بن عبد الله بن عباس صدّه وردعه عن ذلك، حتى أنه كان يوثقه على الكنيف ليرتدع عن الكذب على أبيه، يقول عبد الله بن أبي الحرث: دخلت على ابن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب كنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إن هذا يكذب على أبي. المعارف ص 456، وفيات الأعيان: ج3/ ص266، دراسات في الحديث والمحدثين: ص168.
فعكرمة لا قيمة لكلامه، ومن يراجع ترجمته يعرف ذلك.
الرأي الثاني: المراد بأهل البيت هم محمد ، وعلي وفاطمة والحسن والحسين .
وسيأتينا في الحلقة الآتية مناقشة للقول الأول وإيراد المؤاخذات التي ترد عليه مما يجعله غير صالحاً، وبالتالي يتعين القول الثاني بتفصيل يأتي فأنتظر.
————————–
(صحيفة الصراط المستقيم/عدد 3/سنة 2 في 10/08/2010 – 29 شعبان 1431هـ ق)