التشكيك بالصلاة:
ومرة أخرى قلت له: الصلاة ليست واجبة.
قال: وكيف؟
قلت: لأنّ في القرآن يقول الله﴿وَأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾.. فالمقصود من الصلاة ذكر الله تعالى، فلكَ أنْ تذكر الله تعالى عوضاً عن الصلاة.
قال وهاب: نعم، سمعت أنّ بعض العلماء كانوا يذكرون الله تعالى في أوقات الصلاة عوضاً عن الصلاة.
ففرحت لكلامه أيّما فرح.. وأخذت أنفخ فيه هذا الرأي حتى ظننت إني استوليت على لُبّته، وبعد ذلك وجدته لا يهتم بأمر الصلاة، وأحياناً لا يصلي، خصوصاً في الصباح، فإنّه كان يترك الصلاة غالباً، حيث كنت أسهر معه إلى بعد منتصف الليل غالباً، فكان منهوك القوى عند الصباح، فلا يقوم للصلاة. وهكذا أخذت أسحب رداء الإيمان من عاتق الشيخ (إنْ كان عنده إيمان) شيئاً فشيئاً، وأردت ذات مرة أنْ أناقش حول (الرسول) لكنّه صمد في وجهي صموداً كبيراً، وقال لي: إنْ تكلمت بعد ذلك حول هذا الموضوع قطعت علاقتي بك. وخشيت أنْ ينهار كل ما بنيته، ومن أجل ذلك أحجمت عن الكلام عن الرسول…لكن أخذت في إذكاء روحه في أنْ يكوِّن لنفسه طريقاً ثالثاً غير السنّة وغير الشيعة، وكان يستجيب لهذا الإيحاء كل استجابة؛ لأنّه كان يملأ غروره وتحرره.
وذات مرة قلت للشيخ: هل صحيح أنّ النبي آخى بين أصحابه؟ قال: نعم.
قلت: هل أحكام الإسلام وقتية أم دائمة؟
قال: بل دائمة؛ لأنّ الرسول يقول: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة.قلت: إذن فلنواخي أنا. وأنت فتواخينا..
ومنذ ذلك الحين كنت أتبعه في كل سفر وحضر، وكنت أهتم لأنْ تأتي الشجرة التي غرستها ثمارها التي صرفت لأجلها أثمن أوقات شبابي).
تلفيق البشرى:
يقول المستر همفر: (كنت أنا ومحمد نسير في الطريق الذي رسمناه بخطى سريعة ولم أكن أفارقه لا في سفر ولا في حضر، وكانت مهتمي أنْ أُربّي منه روح الاستقلال والحرية، وحالة التشكيك بكل العقائد والشخصيات. وكنت أُبشّره دائماً بمستقبل زاهرٍ وأمدح فيه روحه الوقادة، ونفسه النقادة، ولفقت له ذات مرة (حلماً).
قلت له: إنّي رأيت البارحة في المنام رسول الله ووصفته بما كنت سمعته من خطباء المنابر جالساً على كرسي وحوله جماعة من العلماء، لم أعرف أحداً منهم، وإذا بي أراك قد دخلت ووجهك يشرق نوراً، فلمّا وصلتَ إلى الرسول قام الرسول إجلالاً لك وقبّل بين عينيك، وقال لك: يا محمد أنت سميي، ووارث علمي، والقائم مقامي في إدارة شؤون الدين والدنيا.
فقلتَ: يا رسول الله، إنّي أخاف أنْ أظهر علمي على الناس.
قال رسول الله لك: لا تخف، إنّك أنت الأعلى.
فلمّا سمع محمد بالمنام، كاد أنْ يطير فرحاً.. وسألني مكرراً هل أنت صادق في رؤياك؟ وكلما سأل أجبته بالإيجاب حتى اطمأنّ وأظنّ أنّه صمّم من ذلك اليوم على إظهار أمره) (مذكرات المستر همفر:ص53-76 باختصار).
وبعد وجوده في البصرة أنتقل محمد بن عبد الوهاب على بغداد وبقي فيها خمس سنين ، وبقي سنة في كردستان، وسنتين في همدان، ثمّ رحل إلى أصفهان، من بلاد إيران التي كانت تحت سيطرة الشاه، وهو من العملاء كما هو مشهور ومعلوم.. ولحقته (صفية) إلى أصفهان، وتنعّم بمتعة لمدة شهرين، ثمّ انتقل إلى شيراز حيث هيّأ له جاسوس آخر، متعة بامرأة أخرى اسمها (آسية) أجمل وأكثر أنوثة وعاطفة من (صفية) وإنّه قضى معها أسعد ساعات العمر.
يقول المستر: (وتبين لي فيما بعد: أنّ (عبد الكريم الجاسوس الجديد) اسم مستعار لأحد المسيحيين من (جلفاء) من نواحي أصفهان كان من عملاء الوزارة وأنّ (آسية) من يهود (شيراز) وكانت أيضاً هي الأخرى من عملاء الوزارة.
وكان نتيجة سيطرتنا – نحن الأربعة – على محمد الوهاب أنّه طُبخ كأفضل ما يمكن لما يرجى منه في المستقبل (مذكرات المستر همفر: 97-98، بتصرّف).
وهكذا تكوّن المسار الفكري عند محمد عبد الوهاب بغرس من الجاسوس البريطاني، وانحرف المسار الفكري والعقائدي لهذا الرجل بنفخ ودفع ذاك الخبيث البريطاني.
ثمّ شدّ الرحال إلى قم، وتوجّه بعد ذلك نحو الإحساء ماراً بمدينة البصرة، ثمّ إلى (حُرَيملة) محل إقامة والده. (تاريخ نجد:ص111).
ولم يكن محمد بن عبد الوهاب يجرأ على الإعلان عن أفكاره وعقائده مادام أبوه حيّاً، وإن كانت تقع بينهما بين الحين والآخر مشادّات ومنازعات، ولكن بعد رحيل والده في سنة 1153هـ، أزاح الستار عن عقائده وأعلن في الملأ العام عمّا تنطوي عليه نفسه من أفكار وعقائد خاصة.
ولقد كان لحركته هذه ردّة فعل بين أهل (حريملة)، فأوجدت ضجّة بينهم فهمّوا بقتله، فلم يجد بدّاً من الهروب إلى «عيينة» مسقط رأسه ودار نشأته، وقد تعاهد هو وأميرها (عثمان بن معمر) على أن يشدّ كلّ أزر الآخر، فيترك الأمير الحرية للشيخ في إظهار الدعوة والعمل على نشرها، لقاء أن يقوم محمد بن عبد الوهاب بدوره وبشتى الوسائل لسيطرة الأمير على نجد بكاملها.(هذه هي الوهابية:ص112)، وقيل: إن محمد بن عبد الوهاب تزوج أخت أمير العيينة.
ولم يطل عمر التحالف بين ابن عبد الوهاب والأمير ابن معمر، بسبب سليمان الحميدي صاحب الإحساء والقطيف، لأنّه أمر عثمان بن معمر ـ و كان أقوى منه ـ أن يقتل الشيخ، فاضطر على أثرها ابن عبد الوهاب للتوجّه إلى (الدرعية)، وهي تقع شرقي نجد وكانت بلاد مسليمة الكذاب من قبل والتي انطلقت منها أحزاب الردّة. وكان أميرها آنذاك محمد بن سعود جد الأُسرة الحاكمة في السعودية (آل سعود) و تم إبرام الاتّفاق بين الأمير والشيخ على غرار ما كان قد تم بينه و بين عثمان بن معمر، فقد وهب الشيخ نجد وعربانها لابن سعود، ولتوطيد تلك العلاقة وإحكام الأمر بينهما زوّج محمد بن سعود ابنه عبد العزيز من إحدى بنات محمد بن عبد الوهاب، بدأ ابن عبد الوهاب حملته التبليغية تحت ظل التحالف الجديد ودعمه المادي والعسكري، فجمع الشيخ أنصاره وأتباعه وحثّهم على غزو البلدان المجاورة المسلمة، أو الدخول في الدعوة الجديدة، وهكذا بدأ سيل الغنائم والأموال يسيل باتّجاه الدرعية، تلك المدينة الفقيرة، ولم تكن تلك الغنائم إلاّ أموال المسلمين الذين أعمل الشيخ وأتباعه فيهم السيف وتركهم أشلاء متناثرة وسبى ذراريهم ونهب أموالهم تحت ذريعة التهمة بالشرك والارتداد عن الدين، وهكذا أباح الشيخ أموال المسلمين لجيشه ومناصريه!! حتّى أنّ الآلوسي ـ المعروف بميوله الوهابية ـ ينقل عن المؤرخ ابن بشر النجدي إشارة واضحة إلى حالة النهب و السلب التي اعتمدها الوهابيون.
شهادة ابن بشر النجدي
«… وكان أهل الدرعيّة ـ يومئذ ـ في غاية الضيق و الحاجة، وكانوا يحترفون لأجل معاشهم…. ولقد شاهدت ضيقهم في أوّل الأمر، ثمّ رأيت الدرعيّة بعد ذلك ـ في زمن سعود ـ وما عند أهلها من الأموال الكثيرة والأسلحة المحلاّة بالذهب والفضّة، والخيل الجياد والنجائب العُمانيات، والملابس الفاخرة، وغير ذلك من أسباب الثروة التامة، بحيث يعجز عن عدّه اللسان ويكلُّ عن تفصيله البيان.
ونظرتُ إلى موسمها يوماً ـ في الموضع المعروف بالباطن ـ فرأيت موسم الرجال في جانب وموسم النساء في جانب آخر، فرأيت من الذهب والفضة والأسلحة والإبل والغنم والخيل والألبسة الفاخرة وسائر المآكل ما لا يمكن وصفه، والموسم ممتدٌّ مدّ البصر، وكنت أسمع أصوات البائعين والمشترين وقولهم: بعتُ واشتريت كدويّ النحل…».(تاريخ نجد للآلوسي:ص117).
وتوفى محمد بن عبد الوهاب: سنه 1206هـ.
الخطة لهدم الإسلام
وهكذا واصل الجاسوس البريطاني الشوط مع محمد بن عبد الوهاب لهدم الإسلام وتزييف تعاليمه، فمن هنا يقول المستر همفر: ( لتكميل الشوط مع محمد الوهاب وقد أمرني السكرتير بأنْ لا أفرِّط في حقّه مقدار ذرَّة حيث قال: إنّه حصل من مختلف التقارير الواردة إليه من العملاء أنّ الشيخ أفضل شخص يمكن الاعتماد عليه ليكون مطية لمآرب الوزارة.
ثمّ قال السكرتير: تكلّم مع الشيخ بصراحة.. وقال: لأنّ عميلنا في أصفهان تكلّم معه بصراحة، وقَبِلَ الشيخ العرض على شرط أنّ تحفظه من الحكومات والعلماء الذين لابدّ وأنْ يهاجموه بكل السبل حتى يبدي آراءه وأفكاره.. وأنْ نزوّده بالمال الكافي، والسلاح إذا اقتضى الأمر ذلك. وأنْ نجعل له إمارة ولو صغيرة في أطراف (نجد) بلاده، وقد قبلت الوزارة كل ذلك.
لقد كدت أن أخرج من جلدي من شدّة الفرح بهذا النبأ.. قلت للسكرتير: إذن فما هو العمل الآن وبماذا أكلّف الشيخ، ومن أين أبدأ؟
قال السكرتير: لقد وضعت الوزارة خطة دقيقة لأنْ ينفذها الشيخ هي:
1- تكفير كل المسلمين وإباحة قتلهم وسلب أموالهم وهتك أعراضهم.
2- هدم الكعبة باسم أنّها آثار وثنية وإنْ أمكن منع الناس من الحج.
3- السعي لخلع طاعة الخليفة، ومحاربة أشراف الحجاز بكل الوسائل الممكنة.
4- هدم القباب والأضرحة والأماكن المقدسة عند المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلاد.
5- نشر قرآن فيه التعديل الوارد في بعض الأحاديث من زيادة ونقصان).
ويعلق السكرتير للجاسوس قائلاً: «لا يهولنك هذا البرنامج الضخم، فإنّ الواجب علينا أنْ نبذر البذرة وستأتي الأجيال ليكملوا المسيرة.. وقد اعتادت حكومة بريطانيا العظمى على النَفَس الطويل، والسير خطوة خطوة، وهل (محمد) النبي إلا رجل واحد تمكن من ذلك الانقلاب المذهل؟ فليكن (محمد عبد الوهاب) مثل نبيه (محمد) ليتمكن من هذا الانقلاب المنشود.
وهكذا سافرت في الصباح ميمّماً وجهة نجد وصلتها بعد مشقة بالغة وجدت الشيخ محمد في داره، وقد ظهرت عليه آثار الضعف فلم أبح له بشيء، ثم تبين لي فيما بعد أنّه تزوج وأنّه ينهك قواه مع زوجته، فنصحته بالإقلاع فسمع كلامي)مذكرات المستر همفر: ص151-156، بتصرف(.
حيلة العبد
يقول المستر همفر: وصار القرار أنْ أجعل نفسي عبداً له قد اشتراه من السوق وأنّ العبد الآن جاء من السفر.
وتلقاني الناس بهذا الاسم وبقيت عنده سنتين وهيأنا الترتيب اللازم لإظهار الدعوة.
وفي سنة 1143ه قويت عزيمته، وقد جمع أنصاراً لا بأس بهم.. وألّفت أنا حوله عصابة شديدة المراس زوّدناهم بالمال، وكنت أشد عزيمتهم كلما أصابهم خور من أجل مهاجمة أعدائه، وكلما أظهر دعوته أكثر صار أعداءه أكثر.. وأحياناً كان يريد التراجع من ضغط بعض الإشاعات ضدّه، لكنني كنت أشد من عزيمته، وأقول له: إنّ (محمد النبي) رأى أكثر من ذلك، إنّ هذا هو طريق المجد، وإنّ كل مصلح لابدّ وأنْ يتلقى العنف والإرهاق)مذكرات المستر همفر: ص156-157).
الوعد بالتنفيذ الوهابي:
( نعم.. لقد وعدني (الشيخ) بتنفيذ كل الخطة السداسية إلا أنّه قال أنه لا يتمكن في الحال الحاضر إلا على الإجهار ببعضها، وهكذا كان.. وقد استبعد الشيخ أنْ يقدر على (هدم الكعبة) عند استيلائه عليها.. كما لم يبح عند الناس بأنّها وثنية.. وكذلك استبعد قدرته على صياغة قرآن جديد، وكان أشد خوفه من السلطة في (مكة) وفي (الآستانة).
وبعد سنوات من العمل تمكنت الوزارة من جلب (محمد بن سعود) إلى جانبنا، فأرسلو إليّ رسولاً يبين لي ذلك، ويظهر وجوب التعاون بين (المحمدين) فمن محمد عبد الوهاب الدِّين.. ومن محمد السعود السلطة استولوا على قلوب الناس وأجسادهم، فإنّ التاريخ أثبت أنّ الحكومات الدينية أكثر دواماً، وأشد نفوذاً، وأرهب جانباً.
وهكذا كان.. وبذلك قوي جانبنا قوة كبيرة، وقد اتخذنا (الدرعية) عاصمة للحكم (والدين الجديد) وكانت الوزارة تزوِّد الحكومة الجديدة سراً بالمال الكافي، كما اشترت الحكومة الجديدة في الظاهر عدّة من العبيد كانوا من خيرة ضباط الوزارة الذين دربوا على اللغة العربية، والحروب الصحراوية فكنت أنا وإيّاهم (وعددهم أحد عشر) نتعاون بوضع الخطط اللازمة.
وكان (المحمدان) يسيران على ما نضع لهما من الخطط، وكثيراً ما نناقش الأمر مناقشة موضوعية إذا لم يكن أمر خاص من الوزارة أمّا إذا جاء أمر من الوزارة فرفعت الأقلام وجفّت الصحف.. (مذكرات المستر همفر: ص158-159). للبحث تكملة ستأتي.