بعد أن ناقشنا التوقيع من جهة السند في القسم الأول، وأثبتنا هناك أن التوقيع بحسب مباني الأصوليين لا يصلح للإستدلال به على نفي السفارة، سنناقشه الآن من جهة المتن.
لابد في البداية من معرفة أن الدليل لا يكون دليلاً إلا إذا كانت دلالته محكمة وقطعية، أما إذا تعددت دلالاته وصار يقبل أكثر من احتمال واحد فإنه في هذه الحالة يكون متشابهاً ويفقد قيمته كدليل.
توقيع السمري متشابه الدلالة:
لننظر الآن في كلمات بعض أهم من تحدثوا عن التوقيع الشريف لنرى مقدار التضارب الحاصل في أفهامهم مما يعزز تشابه التوقيع:
1- يعلق العلامة المجلسي بعد أن ينقل التوقيع الشريف قائلاً :
( بيان : لعله محمول على من يدعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الأخبار من جانبه عليه السلام إلى الشيعة ، على مثال السفراء لئلا ينافي الأخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه عليه السلام والله يعلم )[ بحار الأنوار :ج 52 ص 151].
وقوله : ( لعله …الخ ) واضح في أنه يحتمل هذا المعنى احتمالاً ولا يقطع به ، وواضح أيضاً إنه إنما ذهب هذا المذهب هروباً مما اعتبره تعارضاً بين مفاد التوقيع الذي ينفي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة وما دلت عليه الأخبار من حصول المشاهدة لأناس كثيرين جدا ً.
2- و قال الميرزا النوري :
( روى الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة عن الحسن بن أحمد المكتب والطبرسي في الاحتجاج مرسلا أنه خرج التوقيع إلى أبي الحسن السمري : يا علي بن محمد السمري اسمع أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنك ميت ما بينك وما بين ستة أيام ، فاجمع أمرك ، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد الأمد ، وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جورا ، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة ، فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وهذا الخبر بظاهره ينافي الحكايات السابقة وغيرها مما هو مذكور في البحار والجواب عنه من وجوه :
الأول :
أنه خبر واحد مرسل ، غير موجب علما ، فلا يعارض تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل ومن بعضها المتضمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها من غيره عليه السلام ، فكيف يجوز الإعراض عنها لوجود خبر ضعيف لم يعمل به ناقله ، وهو الشيخ في الكتاب المذكور كما يأتي كلامه فيه ، فكيف بغيره والعلماء الأعلام تلقوها بالقبول ، وذكروها في زبرهم وتصانيفهم ، معولين عليها معتنين بها .
الثاني :
ما ذكره في البحار بعد ذكر الخبر المزبور ما لفظه : لعله محمول على من يدعي المشاهدة مع النيابة ، وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء لئلا ينافي الأخبار التي مضت وسيأتي فيمن رآه عليه السلام والله يعلم .
الثالث :
ما يظهر من قصة الجزيرة الخضراء ، قال الشيخ الفاضل علي بن فاضل المازندراني : فقلت للسيد شمس الدين محمد وهو العقب السادس من أولاده عليه السلام : يا سيدي قد روينا عن مشايخنا أحاديث رويت عن صاحب الأمر عليه السلام أنه قال : لما أمر بالغيبة الكبرى : من رآني بعد غيبتي فقد كذب ، فكيف فيكم من يراه ؟ فقال : صدقت إنه عليه السلام إنما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه من أهل بيته ، وغيرهم من فراعنة بني العباس ، حتى أن الشيعة يمنع بعضها بعضا عن التحدث بذكره ، وفي هذا الزمان تطاولت المدة وأيس منه الأعداء ، وبلادنا نائية عنهم ، وعن ظلمهم وعنائهم ، الحكاية . وهذا الوجه كما ترى يجري في كثير من بلاد أوليائه .
الرابع :
ما ذكره العلامة الطباطبائي في رجاله في ترجمة الشيخ المفيد بعد ذكر التوقيعات المشهورة الصادرة منه عليه السلام في حقه ما لفظه : وقد يشكل أمر هذا التوقيع بوقوعه في الغيبة الكبرى ، مع جهالة المبلغ ، ودعواه المشاهدة المنافية بعد الغيبة الصغرى ، ويمكن دفعه باحتمال حصول العلم بمقتضى القرائن ، واشتمال التوقيع على الملاحم والإخبار عن الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله وأولياؤه بإظهاره لهم ، وأن المشاهدة المنفية أن يشاهد الإمام عليه السلام ويعلم أنه الحجة عليه السلام حال مشاهدته له ، ولم يعلم من المبلغ ادعاؤه لذلك . وقال رحمه الله في فوائده في مسألة الإجماع بعد اشتراط دخول كل من لا نعرفه : وربما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقول الإمام عليه السلام بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرؤية في مدة الغيبة ، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه عليه السلام فيبرزه في صورة الإجماع ، جمعا بين الأمر بإظهار الحق والنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق ، انتهى . ويمكن أن يكون نظره في هذا الكلام إلى الوجه الآتي … إلى أن يقول :
الخامس :
أن يكون المخفي على الأنام ، والمحجوب عنهم ، مكانه عليه السلام ومستقره الذي يقيم فيه ، فلا يصل إليه أحد ، ولا يعرفه غيره حتى ولده ، فلا ينافي لقاءه ومشاهدته في الأماكن والمقامات التي قد مر ذكر بعضها ، وظهوره عند المضطر المستغيث به ، الملتجئ إليه التي انقطعت عنه الأسباب وأغلقت دونه الأبواب )[ جنة المأوى – بحار الأنوار : ج 53 ص318-325].
واضح إن الميرزا النوري يركز على دلالة واحدة يراها ظاهرة في التوقيع هي المتعلقة بالمشاهدة بمعنى الرؤية البصرية أو اللقاء ، وما يسوقه من دلالات أو وجوه يستهدف صرف التوقيع عن هذه الدلالة التي يراها معارضة لما دلت عليه الأخبار من تحقق الرؤية ، بل إنه في النقطة الأولى من الفائدة الأولى لا يتوانى عن نفض يده من مضمون التوقيع عبر التذكير بكونه خبراً مرسلاً لم يعمل به ناقله وهو الشيخ الطوسي ولا يقوى بالنتيجة على معارضة الأخبار الكثيرة التي حظيت بالعناية والقبول من طرف الكثيرين. أما في النقطة الثانية فالميرزا يقتبس كلام العلامة المجلسي حرفياً ليدلل على أنه شأنه شأن العلامة لا يذهب إلى القول بأن المشاهدة التي يمنعها التوقيع هي المقترنة بادعاء السفارة إلا على سبيل الاحتمال الذي يُلجأ إليه لدفع المعنى الظاهر لتعذر القبول به . فالميرزا والعلامة بكلمة أخرى لا يريدان من كلامهما تقرير معنى يتعلق بانعدام السفارة في الغيبة الكبرى، فهما وإن كانا يقولان بهذا المعنى على سبيل الاحتمال، إلا أنهما – كما هو واضح – لا يقولان به على أنه المقصود الأول والمحدد لكلامهما ، فالقول بانتفاء السفارة ليس مقصوداً من طرفهما بذاته ولذاته، وإنما جاء في معرض النقض على من يمكن أن يذهب إلى امتناع المشاهدة بدلالة التوقيع . فكأنهما يعترضانه بالقول : إذا كنت تصر على أن المقصود من التوقيع هو نفي المشاهدة بمعنى الرؤية البصرية فعليك أن تثبت عدم إمكان أن يكون المقصود هو ادعاء المشاهدة المقترن بادعاء السفارة، فنحن على الأقل نحتمل هذا المعنى احتمالاً، ولا يسعك والحال هذه إلا أن تنقض هذا الاحتمال لتثبيت مدعاك.
إن ملاحظة الجانب السلبي النقضي في توجيه العلامة والميرزا يعززها عدم اكتفائهما بهذا التوجيه، وصيرورتهما ولاسيما الميرزا إلى وجوه أخرى يُحتمل أن يكون التوقيع قاصداً لها .
والآن ماذا يعني كونهما لم يقصدا بالذات الدلالة التي يستشف منها انتفاء السفارة في الغيبة الكبرى؟
الأكيد في هذا الصدد إن أحداً لا يسعه الزعم بأنهما يقطعان بانتفاء السفارة في الغيبة الكبرى اعتماداً على ما ورد هنا من توجيه للتوقيع الشريف ، ولا يمكنه أن يقطع بالتأكيد أنهما لن يتراجعا عن هذا القول ليقولا إنهما لم يكونا في معرض تحقيق هذا المعنى تحديداً ، وإنما أبرزاه في مقام النقض على من يذهب إلى أن دلالة التوقيع هي تكذيب مدعي الرؤية ، والنقض كما هو معروف لا يستلزم التقدم بجواب إيجابي مُتحقق منه ، بل يكفي فيه اعتراض المعنى المنقوض عليه بدلالة يزعم الناقض كونها محتملة ، ولا يلزمه تقديم البرهان على أنها هي المرادة تحديداً إذ يكفيه في مقام النقض كونها محتملة، وعلى من يتقدم بدلالة إيجابية ، أو كان في مقام الحل أو تحديد معنى معيناً، عليه أن يبرهن على عدم إمكان الدلالة الناقضة .
ومن جهة أخرى يمكننا فهم أن من يحاول النقض على معنى ما فأن غايته هي نفس النقض ، أو نفس سلب المعنى الإيجابي الذي يقول به الآخر ( أو يُتصور إنه يمكن أن يقول به أو يفهمه من خطاب ما ) ، وعلى هذا لابد أن يكون واضحاً إن من ينقض مستعد دائماً للتنازل عن المعنى الذي ذهب إليه في نقضه في حال تحصل على معنى آخر يحقق مراده النقضي ، وكان هذا المعنى الجديد أكثر قوة، أو أقدر على منع الخصم من توجيه الطعن له أو توهينه . فإن إمكانية الطعن في النقض أو توهينه وإن كان لا يلغي احتماليته غير أنه يضعف النقض في الوقت نفسه من تحقيق أكبر غاياته وهي إعدام المعنى المنقوض .
وليس من شك في أن النقض الموجه هنا يمكن توهينه بمطالبة صاحب النقض بالدليل القطعي على انتفاء السفارة، وهو منعدم كما هو معروف، وعليه تبقى الدلالة الإيجابية المفترضة حاضرة وعالقة بالأذهان ، لا يسع النقض سوى التخفيف من أثرها لا محوه كلياً ولا حتى تضعيفه إلى حد كبير.
وبالعودة إلى ما ذكره الميرزا النوري نلاحظ أنه يسوق نقضاً آخر في إطار ذكره قصة الجزيرة الخضراء مفاده إن امتناع المشاهدة كان لوقت محدد فهو عليه السلام ( إنما قال ذلك في ذلك الزمان لكثرة أعدائه من أهل بيته ، وغيرهم من فراعنة بني العباس ، حتى إن الشيعة يمنع بعضها بعضا عن التحدث بذكره ، وفي هذا الزمان تطاولت المدة وأيس منه الأعداء ، وبلادنا نائية عنهم ، وعن ظلمهم وعنائهم ، الحكاية . وهذا الوجه كما ترى يجري في كثير من بلاد أوليائه ).
أقول هذا التوجيه لدلالة التوقيع يُسقط الفكرة السابقة المنبنية على انعدام السفارة في الغيبة الكبرى ، بحيث يمكن التمسك به في معرض النقض على من يصر على أن التوقيع يراد منه انعدام السفارة ، هذا علاوة على دلالته الواضحة على أنهم قد اختلفوا في تحديد المراد من المشاهدة ، فالتوجيه الذي بين أيدينا يحددها بالرؤية البصرية واللقاء، ويذهب إلى أن المنع لم يكن مطلقاً بل كان لفترة محددة ، هي الفترة الموصوفة بكثرة الأعداء، فالأمر إذن لا علاقة له بالسفارة ، ولا يتناقض مع الأخبار الواردة في حصول المشاهدة واللقاء بالإمام ع.
وفي النقطة الرابعة ينقل الميرزا رأياً مختلفاً ذهب إليه العلامة الطباطبائي هو ( أن المشاهدة المنفية أن يشاهد الإمام عليه السلام ويعلم أنه الحجة عليه السلام حال مشاهدته له ). وهذا الرأي لا يتعرض لمسألة السفارة، ولا يرى في التوقيع ما يدل على انتفائها.
أما النقطة السادسة فتوجه التوقيع على أن المراد من المشاهدة المنتفية هو (أن يكون المخفي على الأنام ، والمحجوب عنهم ، مكانه عليه السلام ومستقره الذي يقيم فيه ، فلا يصل إليه أحد ، ولا يعرفه غيره حتى ولده ). وهذا التوجيه بدوره لا يتعرض لمسألة السفارة لا من قريب ولا من بعيد . وسيأتي في مقال لاحق كلمات أخرى.
( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 3 – السنة الثانية – بتاريخ 10-08-2010 م – 29 شعبان 1431 هـ.ق)