زاوية العقائد الدينية

يملؤها قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلماً وجورا!!

بسم الله الرحمن الرحيم

تعد هذه العبارة من أشهر العبارات الدالة على قيام دولة العدل الإلهي وهي تأتي دائما مقترنة بذكر المهدي من آل محمد(ص) ، وهي تشير إلى امتلاء الأرض قسطا وعدلا بعد أن ملأها الفجار ظلما وجورا ، ولذا كان سائداً وما زال لدى غالبية الناس أن معنى الأرض منحصر بهذه المساحة التي نعيش عليها وما فيها من شجر وحجر ونبات وحيوان وإنسان ،

 

نعم هذا المعنى للأرض هو واحد من معانيها بل لعله المعنى الشائع استعماله لدى الناس والذي حصروا أنفسهم في إطاره ، مع أنهم عندما يقرؤون القرآن يرون أن لابد من معان أخرى لمفردة الأرض هي غير التي درجوا عليها ، وإلا لو كان المعنى منحصراً بما لديهم لاحتج الناس على الله سبحانه في كثير من المواقف والمواضع ، حيث يأتي لفظ الأرض وما يتعلق بها دال على الأمن والأمان ، وواقع الحال مخالف لذلك الوصف تماما فلا أمن ولا أمان!!! فكيف يصف الحق سبحانه الأرض بأنها أمن وأمان وواقعها يخلو من ذلك؟؟!! قال تعالى{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}(سبأ/18) ، وفي هذه الآية وجه الإمام الصادق(ص) سؤالا لأبي حنيفة (رأس المذهب الحنفي) في رواية طويلة نذكر منها محل الشاهد حيث سأل الإمام الصادق(ص) أبا حنيفة : [فقال : أنت فقيه أهل العراق ؟ قال : نعم . قال : فبما تفتيهم ؟ قال : بكتاب الله وسنة نبيه . قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته ، وتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة ولقد ادعيت علماً ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا ، وما ورثك الله من كتابه حرفاً ، فإن كنت كما تقول – ولست كما تقـول – فأخبرني عن قول الله عز وجل : سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (سبأ/18) أين ذلك من الأرض ؟ قال : أحسبه ما بين مكـة والمدينـة ، فالتفت أبو عبد الله (عليه السلام) إلى أصحابه فقال : تعلمون أن الناس يقطع عليهم بين المدينة ومكة فتؤخذ أموالهم ولا يأمنون على أنفسهم ويقتلون ؟ قالوا : نعم . قال : فسكت أبو حنيفة ، فقال : يا أبا حنيفة أخبرني عن قول الله عز وجل : َمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (آل عمران/97) أين ذلك من الأرض ؟ قال : الكعبة . قال : أ فتعلم أن الحجاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله كان آمنا فيها ؟ قال : فكست ….](بحار الأنوار:ج2ص292) ، وقد بين الإمام أحمد الحسن(ع) دلالة أين ذلك من الأرض عندما أجاب على سؤال يتعلق بمعنى الصلاة على محمد وآل محمد(ص) حيث قال (ع) : [قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (الأحزاب/56)، أي أن يطلب المؤمنون من الله أن يصلي على محمد ، فيقولوا : ( اللهم صلِّ على محمد وآل محمد وسلّم تسليماً ) ، ومعنى وسلّم تسليماً : أي أعطهم الأمن والأمان ، والأمن هو بيعة القائم (عليه السلام) ، والأمان يكون في دولـة القائـم (عليه السلام) ، قال تعـــــــــالى : ( وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً  ، وقال تعالى : ( سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ .](المتشابهات للإمام أحمد الحسن(ع):3/193) ، وهذا الأمر كان قد ذكره الإمام الصادق(ص) حيث ورد في محاورة الإمام الصادق(ص) مع أبي حنيفة جاء في آخرها : [ … فقال أبو بكر الحضرمي جعلت فداك الجواب في المسألتين فقال يا أبا بكر سيروا فيها ليالي وأياما آمنين ، فقال : مع قائمنا أهل البيت ، وأما قوله ومن دخله كان آمنا ، فمن بايعه ودخل معه ومسح على يده ودخل في عقد أصحابه كان آمناً .](علل الشرائع : 1/91) ، واستناداً إلى ما قدمه آل محمد(ص) من دلالة للفظ (الأرض) وما يتعلق بها يستبين للقارئ أن ما تعارف عليه الناس من معان للألفاظ ما هو إلا قطرة من بحر المعاني ، فالألفاظ في هذا العالم تقوم مقام الرموز الدالة على معانٍ كثيرة ، وعالم المعاني هو عالم الملكوت وعالم الملك هو عالم الألفاظ وشيء من المعنى ، وهذا الشيء من المعنى متيسر لجميع الناس ، ولكن المعاني بكلها لا يعلمها إلا من كان له حظ بعالم الملكوت ، وسادة عالم الملكوت هم المعصومون من آل محمد(ص) ولذا فهم بحق ترجمان القرآن وهم أهل الذكر كما وصفهم ربهم سبحانه بكتابه العزيز ، قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(الأنبياء/7) ، وهذا الأمر غاية في الأهمية ولذلك عملت كل السلطات الطاغوتية على طول هذه المسيرة التاريخية للبشرية طمسه وتعفيته وتضييع أثره ولكن أنى لهم ذلك ، فحاجة الناس إلى تراجمة وحي الله سبحانه أمر مركوز بفطرتهم ولا سبيل لمحوه ، وكل محاولات الطاغوت بشقيه السلطة الدينية والدنيوية التي عمد فيها إلى النصوص المقدسة وحاول عزلها عن الناطقين بها باءت وتبوء بالفشل دائما ، ولولا ذلك لنجح الطواغيت في طمس أمر الله سبحانه ففي كل زمان هناك ترجمان للنص الإلهي يقف بوجه الطاغوتية ليفضح تسلطها على النصوص ، وسقم هذا التسلط ، وما فعله الإمام الصادق(ص) مع أبي حنيفة هو صورة من هذه الصور المشرقة التي تكشف زيف تلك السلطات التي استجهلت العامة واستخفتهم فأطاعوها .

ولو تأملنا تركيز محمد وآل محمد(ص) على بيان أن الذي سيملؤها قسطاً وعدلاً هو مهديهم(ص) ، وعلى وفق ما بينوه لتبين لنا أن هذه الأرض التي سيملؤها الفجار ظلما وجوراً ـ وإن كان الذهن سينصرف إلى هذه الأرض التي نسير عليها ـ هي أنفس الناس ، وليس ما انصرف إليه ذهن العامة ، وما يؤكد هذا الانصراف للدلالة ما يظهر من آثار عليها كهذا الدمار الهائل الحاصل بها على جميع المستويات والأصعدة ، ولكن الأهم الانتباه إلى من فعل ذلك وأسس لذلك ، بمعنى أن الأرض التي يملؤها الفجار ظلما وجورا هي تلك الأنفس البشرية التي انتهك حرمتها الطواغيت وعبثوا بها أيما عبث فكيفوها على وفق ما يريدون ويأملون ، لأنهم يعرفون تماما أن هذه الأنفس هي أوعية أوجدها خالقها سبحانه كي تكون حاملة لنوره عاكسة له ومعرفة به ، ولم يخلقها لتكون وعاء للظلمة والشر والفساد ، فالظلم هو بإشاعة الظلمة ، والجور هو بوضع النفس البشرية في غير موضعها التي وضعها الله سبحانه بها ، ولذلك فعمل المهدي(ص) ساحته النفس البشرية أولاً وبالأساس ، وليس كما يفهم عامة الناس أن إصلاح الإمام المهدي(ص) هو هذه الأرض التي نسير عليها ، وإن كان أثر عدله سيعم كل ذرة من ذرات الكون ، ولكن الإصلاح الأهم هو إصلاح الأنفس البشرية التي خربها النهج الطاغوتي الذي عمل كل هذه السنين العجاف الطويلة على تخريب الفطرة الإنسانية ، والعمل على تحويل من كرمه خالقه من رتبته التي جعلها الله سبحانه لها وهي أن يكون مكلفا بمعرفته سبحانه ومن ثم معرفا به جل وعلا لمن دونه ، وإذا به يزري بنفسه ويتسافل حتى يزاحم البهائم في رتبتها التي رتبها بها الله جل وعلا ، بل يزداد إزراء بنفسه حتى ينزل أدنى من رتبتها فتصير هي أرقى منه رتبة ، قال تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(الأعراف/179) ، وما كان هذا المخلوق أن يصل إلى هذه المرتبة المتدنية لولا عمله بالنهج الطاغوتي الذي أقام (الأنا) البشري مقام (هو) الدال على الكنه والحقيقة التي من أجلها خلق المخلوق ليكون عارفا بها ومعرفا لها ، وليعرف ما معنى الحديث القدسي الشريف القائل : [إن الله خلق آدم على صورته .] ، والحديث القدسي القائل : [كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف .] والخلق العارف به حق معرفته هو محمد(ص) وآل محمد(ص) ، وعلى من دونهم أن يكونوا صورة منهم ، لأنهم صلوات الله عليهم هم صورة الله المظهرة لأخلاقه جل وعلا ، فكانوا بحق خلفاءه .

فكما وضح ذلك الإمام أحمد الحسن(ص) في كتاب التوحيد بقوله : [فمحمد(ص) وعلي(ع) والأئمة(ع) وعيسى(ع) فقراء إليه سبحانه وتعالى ، ويحملون صفة اللاهوت أي أنهم يؤله إليهم في قضاء الحوائج وسد النقص وتحصيل الكمال ، وهم يقضون الحوائج ويسدون النقص ويكملون الخلق ولكن بحول وقوة وبإذن الله فلا حول ولا قوة لهم إلا بالله ، كما لا يقدرون على تحريك ساكن إلا بإذن الله ، فاتصافهم بصفة اللاهوت كما تبين ليست من نوع ألوهيته المطلقة سبحانه بلى هم صورته سبحانه وأسماؤه الحسنى ووجهه الذي واجه به خلقه ، فبصفة اللاهوت التي اتصفوا بها تعرف ألوهيته الحقيقية سبحانه ، فهم ليسوا آلهة تعبد من دونه ولا آلهة تعبد معه سبحانه كما تبين بل هم عباد مخلوقون يسدون النقص ويهبون الكمال بالله وبإذن الله سبحانه وهذا معنى اتصافهم بصفة الألوهية ، فهم ليسوا آلهة من دونه وليسوا شيئاً من دون الله فهم خلق من خلقه قائمون به سبحانه وليسوا آلهة معه ، أي أنهم ليسوا في مرتبة الألوهية الحقيقية بل هم في مرتبة الخلق فهم تجلي الألوهية الحقيقية في الخلق وهذا هو معنى أنهم الله في الخلق ومعنى أنهم صورة الله ومعنى أنهم وجه الله وأسماؤه الحسنى وأيضا معنى أن الله معنا ، وهذا يبين أيضاً إن من عرفهم عرف الله ومن جهلهم جهل الله ؛ لأن الله سبحانه واجه سواهم من الخلق بهم ؛ ولأنهم الصورة التي تحاكي اللاهوت الحقيقي .

فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، أي من محاكاة اللاهوت وبالتالي تعريف الخلق به سبحانه .

يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ، أي يكاد أن يكون نوراً لا ظلمة فيه ويكاد أن ينير من نفسه ولكنه في الحقيقة ليس كذلك ؛ لأن نوره من الله وليس من نفسه ، ولذا اشتبه إبراهيم الخليل(ع)، وكذا الملائكة في المعراج بمحمد ، فمحمد وآل محمد بهذه المرتبة ، وغاية الخلق الوصول إلى هذه المرتبة ، وهم نهاية الكمال الممكن للإنسان ولذا ختم الدين بمحمد وآل محمد وتختم الدنيا بمحمد وآل محمد .](كتاب التوحيد للإمام أحمد الحسن(ع) : 115-116)

إذن فالأرض التي سيملؤها المهدي(ص) قسطا وعدلا هي أنفس الناس عندما يبث في الناس أحرف العلم الممكن للبشرية تعلمها ومعرفتها وهي السبعة والعشرون حرفا ، وهي أحرف علم التوحيد التي بها تستعيد فطرة الإنسان هويتها ، بعد ما حاول نهج الطاغوت أن يغير معالمها ويمحو كل ما يدل على أنها صفحة إلهية الصنع ، ولقد اجتهد الطاغوت في العمل على ذلك ، وربما استطاع أن يستدرج عدداً كبيراً من الناس ويخرجهم من سبيل الله سبحانه إلى سبيل الشيطان الذي طلب المهلة لهذا الأمر وقد كشف ذلك الحق سبحانه بقوله تعالى {سَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ}(الحجر/30-44) ، وبعمل الناس على وفق مراد المعلم وهو المهدي(ص) وعلى وفق تعليمه إياهم يستبين لهم معنى أنه سيملؤها قسطاً وعدلا فملؤها بالقسط والعدل لا يتحقق أثره في الواقع الخارجي ما لم يكن له وجوداً في الأنفس التي تتعامل مع الواقع لأن (فاقد الشيء لا يعطيه) فمن لا يعرف العدل والقسط لا يمكن أن يعمل على وفقهما ، وهذا الفهم الذي يقدمه المقال هو ما استبان له ، وما فهمه مما طرحه يماني آل محمد(ص) من علم في ساحة الواقع ، ويدعو هذا المقال كل باحث منصف لنفسه إلى هذا المعين الإلهي الذي وعدنا به الحق سبحانه بقوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ}(الملك/30) ، ورد عن آل محمد(ص) أنهم قالوا إذا قرأتم هذه الآية فقولوا (الله يأتينا بماء معين) ، نعم وها هو الحق سبحانه يأتينا بالماء المعين علم محمد وآل محمد(ص) الذي بعث على يد يمانيهم وقائمهم الإمام أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي(ص) .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى