بسم الله الرحمن الرحيم
لعل المفردة الأولى في مشروع الدولة الإلهية وداعيها يماني آل محمد(ع) هي النص الإلهي ، وعلاقة الخلق به وتكييف هذه العلاقة ، حيث أن الحركة باتجاه النص تستند إلى استحضار شعور الخادمية للنص ، وهذا الشعور هو أول الخطى بهذا الاتجاه وكمال هذا السبيل هو بلوغ السائر فيه رتبة خادم حقيقي للنص وهذه الدرجة هي أعلى درجات تكييف الذات باتجاه النص بحيث تنسى الذات البشرية قدرتها على النطق لأنه من حق النص وليس من حقها وتقف الذات البشرية على بابه وقفة العبد الفقير طلبا للمعرفة ورغبة حقيقية في التحصيل على مقام الرضوان
وهذا المقام هو أكبر مقامات المعرفة ففيه يكون العبد ليس أكثر من وعاء للنور ، وامتلاؤه بالنور أخرسه ، وكشف له حقيقة العجز عن المعرفة حيث لا يكون القابل (الوعاء) فاعلا (نوراً) ، بل غاية ما يكونه هو خادم للنور ومترجم لأسراره الكمالية . فيستبين له في ذلك المقام أحقية النص بالنطق وعجزه عن الكلام بحضرته ، بل كل ما يفعله أن يكون خادما مطيعا يؤمر فيفعل ، ويُنهى فيمتثل .
إن رحلة الخادمية باتجاه النص (مصدر الكمال) تتطلب من العبد في كل مرحلة يقطعها يعلم معها غاية وجوده وعلاقته ببدنه وبهذا العالم ، ومعرفة هذه الغاية ينبغي أن تترجم عملا ، وهذا العمل يكون مساوقا للمعرفة فكلما ازدادت المعرفة بمسار الخادمية ازداد العمل باتجاه الهدف ، وازدادت المعرفة بحقيقة علاقة النفس بالجسد وبهذا العالم المادي ، حيث يتحصل العبد من تلك المسيرة على أن هذا العالم ليس أكثر من حيز لأداء الامتحان اتسع هذا الحيز أو لم يتسع ، كثرت مفرداته أو قلت ، طال زمن الامتحان أو قصر ، واكتمال هذا الأمر يشد انتباه العبد باتجاه النص ومعلم النص حتى أنه من شدة تعلقه بالنص ومعلمه لا يرى غيرهما في هذا العالم ، بل يرى كل شيء بهما ومن خلالهما ، وهنا التعبير بالثنائية عن النص والمعلم اعتباراً ، وإلا فحقيقتهما واحدة ، ذاك أن المعلم ما جُعل معلما لولا أنه بلغ مقام خادمية النص فصار صورة تظهر حقيقته ظهوراً كاملاً .
من المعلوم أن النص في هذا العالم نزل مرمزاً ومغلفا بهذه الألفاظ التي ظاهرها يشاكل ما عند الناس ولكن حقيقتها تختلف تماما باختلاف منزلها ، فكما أن الحق سبحانه {ليس كمثله شيء} فكذلك كلامه ليس كمثله كلام ، ومن ثم ما يجري على كلام البشر لا يجري على كلام الله سبحانه ، بل كلام الله هو الحكم والفيصل وهو مقياس الكمال والتكامل ، وهو الفيصل الحق ، ولما كان هذا الكلام مرمزاً بمعنى أنه نزل ـ كما يعبر الطاهرون(ص) ـ [بإياك أعني واسمعي يا جارة] فهو وإن كان الخطاب فيه موجه إلى المعلم ولكن حقيقة الخطاب موجهة إلى من يسمع للمعلم ويطيع ، ومن هنا نفهم كيف أن أولئك الذين يدعون التدين ظلموا النص الإلهي النازل إليهم من السماء لكل أهل الأرض وجعلوه معلما للعصبية والجاهلية وعطلوه من ممارسة تكليفه بالهداية بوصفه كتابا هاديا للتي هي أقوم ، وتلك التي هي أقوم هي غاية المعرفة وهي العبودية ، ولذلك ورد عن الطاهرين(ص) إنه يهدي للتي هي أقوم أي يهدي للإمام ، ذاك أن الإمام المعلم ما كان لينال هذا العهد إلا عندما استحصل على كمال العبودية ، فصار المصداق الأمثل والأكمل في زمانه لمسمى (عبد الله) وبلغ من الإخلاص ذروته فاستحال خادما حقيقيا للنص حيث أعطى نفسه للنص فأعطاه النص كله ، فصار هو النص والنص هو لا فرق بينهما إلا أنه عبد الله وخادم نصه الحكيم .
ولاشك في أن جعل القرآن إماما وقائداً لكل البشرية على اختلاف ألوانها وألسنتها هو الذي يجعلها تسلك سبيل المعرفة الحق ، المعرفة الكاشفة عن عدمية المخلوق ونورانية الكلمة(النص) ، ولولا النص ما كان هناك خلق ، فبماذا يشرق العدم إذا لم يكن هناك نور به يشرق وبه يقوم ، وهنا تقف البشرية حيال النص موقف العاجز فهي إما أن تشرع في تفكيكه وإعادة إنتاجه بما يوافق ما تعرفه وتريده منه ، وهنا يتحول النص إلى ساحة للتنازع والاختلاف ، أو تتضرع البشرية إلى صاحب النص أن يبعث لها معلما لكتابه كي يجمعهم على كلمة سواء تعمل على توحدهم وتراحمهم ، ومن الثابت أن المعرفة لا تكون معرفة حقيقية إذا كان من أهدافها أن يختلف العارفون بها ويتنازعون ، فالمعرفة هي الجامعة للبشرية والموحدة على كلمة سواء ، ومن هنا بحسب ما يذكر عن يماني آل محمد(ص) أنه قال ما معناه [لقد ارتكب علماء الأمة خطأ جسيما باستبعادهم للقرآن ونصوصه عند الاحتجاج على مخالفيهم في الدين أو العقيدة] ، ومن يتدبر هذا القول الحكيم يدرك تماما ذلك الخطأ الجسيم حقا ، إذ من الخطأ الجسيم قصر الرسالة المحمدية على العرب وصاحبها مبعوث رحمة للعالمين أي لكل العوالم وليس لأهل الأرض حسب ، فالرسالة المحمدية مستوعبة كل أهل الأرض بوصفهم عالم من العالمين ، فبأي دليل قصرت هذه الرسالة على العرب أو على من آمن بها حسب ، ومن ثم نص هذه الرسالة غير قادر على الاحتجاج على كل أهل الأرض على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم ، فالقول الحكيم يثبت نفسه بنفسه ، بمعنى أولئك الذين يلحدون في الله سبحانه ويستكبرون عليه وعلى رسله ورسالاته ألا يلزمهم هذا القول الحكيم ، قال تعالى{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(الواقعة/83- 87) ؟؟؟ هل هناك من لديه قدرته على إرجاع الروح إذا بلغت الحلقوم ، وهم ينظرون إلى عزيزهم كيف يعالج سكرات بلوغها ، فهل بقدرتهم ردها ومغالبة الموت؟؟؟!!! فهذا القاهر بالموت هو الله الواحد الأحد الذي يتكبر عليه الجاهلون ، فهل هذا الاستدلال ملزم لمن يؤمن بالقرآن حسب؟؟؟ ولو كان كذلك للزم أن حالة الموت واقعة في من آمن بالقرآن حسب؟؟؟ وهذا لا يقول به مخلوق من أي لسان أو لون كان .
إذن فالنص هو ملزم للحجة على كل الخلق ويمكن محاججة الجميع به من يؤمن ومن هو ليس بمؤمن بالرسول الذي أرسل به ، ومن هذا الجانب سيكون حجة دالة على مصداقية المرسل به وهو محمد(ص) ، لقد أساء المسلمون لنبيهم(ص) ، كما أساءت باقي الأمم لأنبيائها ومرسليها عندما حصروا كلمات الواحد الأحد في زاوية العصبية ، وانتهكت حرمة النص وعدت عليه ففككته وراحت تنتج نصوصا اقل ما يقال عنها جاهلية محلية ظالمة للنص الإلهي الذي هو مستوعب لكل العوالم فما بالك بعالم الدنيا ، وهو أهون العوالم على الله سبحانه ، وربما يسأل سائل عن الكيفية التي يحتج فيها على من لا يؤمن بهذا النص كونه نصا إلهيا؟؟؟ الجواب : يكون الاحتجاج بالكلمة لا بمن أنزلها أو بعث بها ، فالكلمة بذاتها هي محكمة وملزمة ، والله سبحانه جعل كتابه كما وصف هو جلت قدرته{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل/89) ، وكون النص تبيانا لكل شيء هذا يعني أنه يستوعب العوالم كلها مادامت متصفة بالشيئية فهو تبيان لها أي هو مبين للقوانين العامة الحاكمة لها ، ولا يخرج شيء من الأشياء عن القوانين العامة التي جعلها النص كاشفة عن الكيفية والآلية التي يعمل بها كل شيء ، وهذه الكلية جعلت من النص محيطاً إحاطة كلية بالأشياء فهي تتكيف على وفق ما فيه من القوانين الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ، ومن أهم تلك القوانين وأعظمها التي عملت البشرية عبر مسيرتها الحياتية الطويلة على طمسها وتغييب معالمها ؛ قانون معرفة خليفة الله سبحانه ، فالناس لا تختلف أن النصوص التي جاء بها الأنبياء(ع) هي نصوص إلهية ، والغريب أن الناس تغفل عن هذه الحقيقة وهي أن النص والمعلم المبعوث به يكونان في زمن واحد لا يتخلف أحدهما عن صاحبه ، مما يدلل على أن هذه المغايرة بين النص والمعلم هي مغايرة اعتبارية وليست حقيقية ، بل في الحقيقة هما واحد جاء من عند الواحد ، إنما هذه الإثنينية تكشف عن الجهة فالنص جهة كمال وألوهية ، والمعلم جهة سد نقص وربوبية ، فيعرف النص بألوهية المطلق ، ويعرف المعلم بربوبية المطلق ، ومن جهة يعرف المعلم بألوهية المطلق بوصفه قبلة المتعلمين ، والنص يعرف بجهة الربوبية بوصفه الشريعة المدبرة التي بها تدار الحياة .
إن وصف التبيان بالقانونية كونه لا يتبدل ولا يتغير ولا يتخلف بل هو ثابت على الرغم من تغير الأزمان والأمكنة والناس ، وليس هناك قانون يمتلك الثبوتية لدى البشرية كالقوانين الإلهية ، ولكي تتخلص البشرية من هذا المأزق لإدراكها إنها بوضعها للقوانين إنما تتجاوز حدودها المسموح لها العمل فيها ، قامت بوصف تلك القوانين بالوضعية ، بمعنى إنها يمكن أن تتبدل وتتغير وتتخلف تبعا لتغير أحد المتغيرات الثلاثة أو اثنين منها أو ثلاثتها ، ومن ثم فإطلاق مصطلح (القانون) هو إطلاق مجازي لكون الموضوع لا يمتلك الأهلية لكي يكون قانونا ، وعماد تلك الأهلية هي الثبات ، وهذا الثبات هو ثمرة الإحاطة بالمتغيرات ، لأن واضعه محيط بكل شيء ، أما واضع القانون البشري فهو لا يرى أبعد مما توفره له عدسة نظارته ، ولذلك فهو فيما يقنن لابد أن يقع بالحيف والظلم تبعا لمقدار الظلمة في نفسه ، فكلما ازدادت مساحة الظلمة جاء القانون ظالما وجائراً ، وليكن في الحسبان أن أولئك الذين يكونون متشوبين بالظلمة لا يتجرؤون على هذا الفعل لأنهم يعرفون حدودهم ، ولكن من يتجرأ هم أولئك الذين تحتل الظلمة في نفوسهم مساحات واسعة ، ومن ثم فالقوانين التي ينتجونها قوانين واضحة الظلم لأنها نتاج الظلمة وليس فيها من النور سوى رصف الألفاظ وبناءها بناء يوهم بمعرفة حسب .
لذا فأول عمل لمشروع اليماني(ع) كان هو إعادة الاعتبار للنص الهادي من الضلال بشقيه ؛ القرآن وقول العترة الطاهرة ، وتحفيز الناس إلى التعاطي مع النص ومقاربته مقاربة السائل الطالب للمعرفة ، ولاشك في أن هذا العمل يتطلب جهداً مضنيا وشاقا نتيجة التخريب الذي مارسته المؤسسة الدينية التي تدعي مسؤولية الحفاظ على النص الإلهي بشقيه ، والذي يدخل تلك المؤسسة الدينية يجد دعواها تلك فارغة المحتوى خالية تماما ، حيث أنه تخلو من دراسة القرآن وأحاديث العترة الطاهرة ، ومنشغلة بدراسة مفردات (أم العلوم) كما يصطلحون عليها وهي الفلسفة ومتعلقاتها كالمنطق واللغة وعلم الكلام ، ويصدق على تلك المؤسسة أن لا تسمى (دينية) ـ وأعني بالتحديد الحوزة العلمية الشيعية ، أما السواد الأعظم من المسلمين فالمؤسسة الدينية لديهم بعيدة كل البعد عن جوهر الدين وليس بيدها منه شيء سوى القشور لذا فهي مستبعدة من هذا الحديث ـ بل كان ينبغي أن تسمى (مؤسسة فلسفية) لشدة احتفائها بدراسة الفلسفة ومفرداتها ، واجتهادها في العمل على تكييف الدين على وفق متطلبات الفلسفة ، فغاب من تلك المؤسسة الاهتمام بدراسة الأخلاق الإلهية ، بل يعد درس الأخلاق لديهم درسا متدنياً يترفع الكبار من ذوي الدرجات العلمية عن تدريسه أو مقاربته ، ويسند إلى المبتدئين من الطلبة وهكذا القرآن ، أما روايات أهل البيت(ص) فصارت ساحة للمباراة في التفنن باختراع القوانين والمحددات لقبول الرواية وردها فصارت ميدان عمل للتباري واللهو والعبث بدل من أن تكون ميدان عمل للبناء ووضع أسس دولة الحق في نفوس الناس وتهيئتهم لاستقبال إمامهم والاستعداد للعمل بين يديه بما يسرع من قيام دولة الحق والعدل والرحمة .