زاوية الأبحاثزاوية الدعوة اليمانية

لماذا تقتلوننا وقد أتينا لصلاحكم – الحلقة الثانية

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم


إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم

قبل الشروع في فهم الكيفية التي يهدي بها القرآن للتي هي أقوم ، وما التي هي أقوم؟؟ لعل من المفيد أن نتوقف قليلا عند مفردة القرآن والإشارة لها باسم الإشارة الدال على قرب المشار إليه ، إذ من المعروف لا يشار للبعيد باسم الإشارة (هذا) فضلا على ابتداء سياق الإخبار بأداة التوكيد (إن) وهذا يعني فيما يعنيه أن هذا المشار إليه القريب هو حامل نهج الهداية العملي ، أي أن ما فيه ليس وصفاً للهداية وخلا ، بل هو منهج عمل للهداية ، بدليل أن الإخبار عنه كونه هادياً لم يأت بصيغة (الوصف) حسب ، بل جاء بصيغة (الفعل) ، ومن المعلوم أن الفعل هو فرع على الوصف ، ولذا فهو حامل له ومبين لكيفية العمل باتجاهه ، وهذا يدل على أن (القرآن) هو منهج عمل آخذ لهويته من اسمه ، فعلى الرغم من أن الكثير ممن تصدوا لتفسير لفظ (القرآن) لم يتعدوا وصفه كونه الجامع لما بين الدفتين ، أو يقولون في تعريفه : هو كلام الله المنزل على رسوله(ص) ، ولم يتجاوز تعريفه إلى أبعد من ذلك ، حتى أن غاية ما بلغه أولئك المفسرون أنهم رأوا أن لفظ (القرآن) دال على الضم ؛ أي أنه ضم بين دفتيه كل الأحكام والشرائع وتبقى كل تلك التعريفات تدور حول لفظ (القرآن) ومازالت لم تدخل إلى ساحته كي تعرف حقيقته ، ولذا فتلك التعريفات أبقت كتاب الله المجيد في حيز ضيق ينظر له من زاوية هو أبعد ما يكون عنها ، وتلك الزاوية هي كون هذا الكتاب خاص بالمسلمين العرب!! أي زادوا الطين بلة ـ كما يقال ـ فلم يكفهم أنهم لم يعلموا الناس ما معنى الإسلام ليكون كما أراده الله سبحانه أنه دين للناس كافة ، بل ذهبوا بعيداً في تحريف معنى العربية (لغة القرآن) وصيروها في حوزة خشناء ، حيث جعلوا الوصف دال على قوم معينين ومحددين بمكان معين ، ولاشك في أن هذا الأمر من الناس لم يخرج عمن سبقهم من الأمم التي بعث الله سبحانه فيها رسلا وأنبياء(ع) ، حيث تتوهم تلك الأمم أن الإرسال الإلهي لرجل منها هو تشريف لها يجعل على الناس كافة ديناً في الأعناق لتلك الأمة!!!

ولا يحتاج هذا الفهم السقيم إلى رد لأنه واضح البطلان ، فوصف (شعب الله المختار) الذي يعد أمل كل أمة يكون فيها إرسال إلهي إنما هو مقام تكليف وعمل في هذه الحياة الدنيا ، وليس مقام تشريف وجاه وتسلط كما يتوهم الكثير من الأمم السالفة ، ومنهم أمة العرب ، فشعب الله المختار هو ذاك الشعب العامل على وفق تعاليم الله سبحانه ، وهو شعب يوحده منهج العمل الإلهي بغض النظر عن العرق واللون والانتماء النسبي ، قال تعالى{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(الحجرات/13) فواضح أن الخطاب هنا لا يخص طائفة من الناس بل هو لعامة الناس الذين يسكنون هذه المعمورة الذين ما اختلف نظام تناسلهم وتكونهم وائتلافهم ، فكلهم تجري فيه السنة في الخلق نفسها ، وتناميهم وتكاثرهم يجري بقانون ثابت لا يختلف من أمة إلى أخرى ليكون لإحداها شرف على الباقيات!! فما مدار التميز في الأمر؟ مداره هو التقوى ؛ أي العمل على وفق النهج المعرفي الذي جعله الله سبحانه لعباده كي يعرفوه ، وسمي بـ(التقوى) لأن ثمرة المعرفة التقوى ، فمن يعرف يتقي ولا يتقحم في الشبهات حتى يتوضح له حلالها من حرامها ، وهذا الوصف (التقوى) عمله واضح لدى كل الناس فيما يتعلق بالبدن المادي حيث يتداولون هذه العبارة ولا يختلفون على معناها (الوقاية خير من العلاج) ولكي تتحقق الوقاية فهم يقومون بعقد حلقات تعليمية يعرفون الناس بها كيفية التوقي ، ولكن للأسف عندما يكون الأمر متعلق بالنفوس فالناس تغفل عن ذلك مع أن الخطورة الحاصلة من المرض النفسي أعظم وأكبر من الخطورة الحاصلة من المرض البدني!!

ولكي يتوضح منهج التقوى نحاول أن نعرف إلى ماذا تشير لفظة (القرآن)؟؟ هل هو لفظ خاص بالكتاب الذي أنزله الله سبحانه على العرب القاطنين في جزيرة العرب ، وبالخصوص على قريش منهم ، وبالأخص على بني هاشم منهم ، وهكذا وصولا إلى رسول الله(ص) وقرابته المقربين (نسبياً)؟؟ وبالعودة إلى كل المعاني التي ذكرها المفسرون لا تعدو تلك المعاني ساحة الوصف الخارجي للكتاب الإلهي ، مع أن وصفه بالقرآن دون أن يوصف غيره من الكتب السابقة فيه إشارة معرفية مهمة مفادها أن هذا الوصف مشتق من أعلى رتبة له حيث أن مصدر هذا الوصف هو (القراءة) وهذا المصدر الأصل فيه الوصف والفرع فيه الفعل ، وأعلى رتب الوصف هي (القرآن) وليس بعدها رتبة ، أي كأن هذا الوصف يشير إلى غاية القراءة بأعلى رتبها ، وهي الخلاص ، وهذا المعنى لا يختلف فيه شخصان ، فكل عمل يبدأ بالقراءة لأنها أس المعرفة وبها يتوضح منهج العمل ومن خلالها يتخلص المرء من جهله ، فكلما تم تطهير قسم ما من النفس من الجهل ، فهذا التطهير هو تخليص للنفس من الجهل بنسبة ما حتى نصل إلى الغاية وهي أن تتطهر النفس تطهيرا كاملا من الجهل ، فتصير وعاء للمعرفة كما أرادها خالقها ، ولذا فوصف (القرآن) بجانبه الأول هو دال على التطهير من الجهل ومن ثم فهو بحق (وصف الله سبحانه) وهذا إشارة إلى قول أمير المؤمنين(ص) في بيان اختلاف كلام الله سبحانه عن كلام البشر حيث قال (ص) : كلام الله صفته ، وكلام الناس أفعالهم ، والجانب الثاني وهو المهم أيضاً ولا تقل أهميته عما حمل هذا الكتاب من نهج لتطهير النفس الإنسانية من الجهل هو أن النفس الإنسانية تحتاج ـ في هذا العالم ـ إلى من يترجم لها هذا المنهج عملياً حتى تقتدي به وتسير على هداه ، وهنا لزم أن يكون القرآن في هذا الجانب مصداق يتحرك ، مثلما كان في جانبه الأول مفاهيم تنظيمية وإدارية ، فهو في جانبه الثاني نظام يعمل ويتحرك في شخص سماه الله سبحانه (رسولا) ، وحتى النظر في وصف (رسولا) هو دال على اشتقاقه من الرسالة التي هي نظام من المفاهيم جاء للتعريف بالمرسِل من خلال إدارته للحياة على وفق ما هي ، فالتوافق الذي يحصل بين النظام الثابت للحياة وهو كون كل المخلوقات خلقت لأداء عمل معين في هذا النظام ، وبين عمل المكلفين على وفق المنهج المعرفي الذي يبين لهم حقيقة هذا النظام كي يعملوا على الانطباق عليه انطباقا يعرِّف بخالقهم يكشفه وجود الرسول الذي هو شخص الرسالة وتشخصها ، ولذا فتسمية رسول هي شهادة لانطباق ذلك المسمى بالرسالة ، ولولا ذلك لم يصح وصفه بالرسول ، وبما أن الرسالة نظام ثابت وخاصة عندما توصف بأنها (قرآن) أي الرسالة الحاملة للتطهير بأعلى درجاته حتى يصل المرء بها إلى أن يكون وعاء للمعرفة الإلهية ، فالرسول لزم أن يوصف بأنه (قرآن ناطق) أي لزم أن يكون الرسول هو مصداق الرسالة المطهرة من الجهل والظلم والجور ، وهذه الرسالة العظيمة احتاج الناس كي يتوصلوا إلى التعاطي معها تعاطيا لا يجعل من وجوده في الحياة وجوداً لا حكمة من ورائه إلى أن تكون في صفحتين ؛

الأولى : تنزيل وفي هذه الصفحة يكون العمل فيها منصب على البيان والتوضيح والتعريف ، وهذا ما قام به رسول الله محمد(ص) والأئمة الاثنا عشر من بعده ،

والصفحة الثانية : صفحة التأويل حيث يكون فيها القرآن منهاج عمل حاكم ومدبر ونظام إداري للحياة ، وعلى وفق هذا الفهم يتبين لنا معنى كل هذه المسيرة العظيمة للأئمة الاثني عشر المليئة بالصبر والمعاناة وتحمل المشاق حتى يبلغ الكتاب أجله التأويلي ، فكل عملهم صلوات الله وسلامه عليهم كان منصبا على المحافظة على تنزيله ، ولذلك نراهم قاتلوا وقتلوا كي يبقى القرآن حيا نابضا ، وليس أدل على ذلك من صرخة الحسين(ص) المدوية في أسماع الدهر (إن كان دين محمد لا يستقيم إلا بقتلي يا سيوف خذيني .) فهذه الكلمة العظيمة ليست هي عبارة إنشائية جميلة ـ كما يحاول البعض وصفها ـ بل هي بيان شاف وواف لحقيقة أمر التنزيل والمحافظة عليه ولو بإراقة دم العترة الطاهرة المتمثلة بالحسين(ص)

واستناداً إلى ذلك نفهم قول النبي(ص) : [حسين مني وأنا من حسين …] فمحمد(ص) تحمل عبء التنزيل كله ، والحسين(ص) تحمل عبء المحافظة على التنزيل ، فلولا دماء الحسين(ص) لما بقي للقرآن اسم ولا رسم ، أما صفحة التأويل والعمل بالقرآن لتتحقق الطهارة في الواقع العملي كما تحققت في الواقع النفسي فهو مهمة الاثني عشر مهدياً الذين أوصى بهم رسول الله(ص) في وصيته ليلة وفاته .

ومن يعود إلى ميراث الأئمة(ص) بما وصل منه يجده حاكيا لهذه الحقيقة وهي كونهم كانوا مربين ومعلمين حتى يثبت القرآن في النفوس ويطهرها من ظلمة الجهل والجور في العمل ، ولما وصل الكتاب إلى أجله الذي جعله الله سبحانه له بدأت الصفحة الثانية من العمل وهي جعل القرآن واقعا عمليا متحركا يتطهر فيه الواقع ويكون هذا التطهير بمثابة أثر واضح لطهارة النفوس من الظلم والجور (فيملؤها قسطا وعدلا …) فامتلاؤها يظهر بأثره على الواقع فمتى ما استبان أثر القرآن على الواقع العملي للحياة وتتوضح هيمنته عليه يكون ذلك دلالة قاطعة على امتلاء النفوس قسطا وعدلا أما قبل ذلك فلا يقال أن النفوس امتلأت إذ لا أثر دال على ذلك .

 

صحيفة الصراط المستقيم – العدد 38 – السنة الثانية – بتاريخ 12-04-2011 م – 8 جمادي الاول 1432 هـ.ق) 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى