بسم الله الرحمن الرحيم
لعل من المفيد أن نعرف إجمالا أهمية المعرفة ، فمما لاشك فيه أن الغاية من المعرفة هو إدخال الاطمئنان إلى قلب الساعي باتجاه ما ، ليجدَّ السير فيه وصولا إلى الغاية المرجوة من دون إعمال التفكير بجدوى ذلك السعي التي تراجع قلب الساعي عند حصول أي عائق في أثناء السير ،
إذ إعمال التفكير عند السعي هو أمر سلبي لأنه في أحسن حالات الظن به يعمد إلى تعطيل العمل ، وهذا التعطيل عند الشروع بالسعي أو بلوغ مراحل فيه لا يأمن أن يكون سببا في السقوط والتردي ، فضلا على أن المعرفة إذا كانت صعودا فهي لاشك في أنها كلما ازداد الساعي إليها ارتقاء شعر بخطورة أن تنزلق قدماه لأن سقوطه يعني هلاكه ، وتلك المعرفة أشق بكثير من تلك المعرفة الأفقية التي ليست سوى تكثر معلوماتي أفقي ، الغاية منها انتفاخ الذات العارفة ، وتلك المعرفة لا تحتاج سعيا حقيقيا بل السعي في تحصيلها زائف ، لأنه في واقعه سعي الـ(مكانك سر) إذا جاز التعبير فذلك الساعي يتوهم التقدم والتطور ، وحقيقة ذلك التطور ليست أكثر من سعي في الخيال ، وتطور موهوم ، حيث أن هذا اللون من المعرفة ليس فيه إجابة منجية للعبد أمام ربه سبحانه ، والكل صائر إلى بوابة واحدة سواء علم ذلك أو سها عنه وتجاهله ، وتلك البوابة هي ؛ بوابة الموت ، ومن ثم فالعمل ينبغي أن يستند إلى أساس تحصيل جواز مرور إلى الآخرة عبر معرفة ما فيها قبل الموت ، أما الذين ينفقون أعمارهم في معرفة الدنيا وتفاصيلها بغية تحصيل المناصب فيها ، فأولئك لاشك في أنهم إنما أنفقوها في تجارة خاسرة عما قليل هم مفارقوها شاؤوا أم أبوا ولذلك حذر معلمو البشرية من الأنبياء والمرسلين والأوصياء(ع) من الانشغال بالدنيا وزينتها لأنه انشغال بالفاني يقابله زهد وانصراف عن الباقي الدائم .
ولذا فالمعرفة الدنيوية معرفة تزيد من استعار النار مع كل خطوة إلى الأمام فليس فيها شيء من الاطمئنان أبداً بل ليس فيها إلا الخوف من الفقدان والتزاحم ، والتهارش ، والصراع ، والنزاع ، وكلما تقدم فيها المرء فهو يزداد حرصا عليها وخوفا من فقدانها ، ويزداد لديه الخوف كلما أيقن بالرحيل عنها ولذلك تجد أولئك الساعون باتجاهها يصفهم الحق سبحانه بقوله{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}(البقرة/96) ، ويروى أن [أبا ذر الغفاري سئل مرة : لماذا يكره الناس الموت؟! قال : لأنهم يكرهون أن يتركوا دارا عمروها ، ويصيروا إلى دار خربوها] ، وورد عن أهل بيت العصمة(ص) أنهم قالوا : [الدنيا والآخرة ضرتان لا تجتمعان في قلب إنسان ، فإذا دخلت إحداهما رحلت الأخرى] .
أما المعرفة الأخروية فهي معرفة سالكوها قليلون ، ورد عن أمير المؤمنين(ص) أنه قال : [لا تستوحشوا سبيل الحق لقلة سالكيه] ، وهذا يعني أن سبيل الحق هو سبيل لا تزاحم فيه ، ولا صراع ، بل أن السالك به ربما يستوحش من الوحدة لأنه يكتشف كل ما جد السير أن وحدته تزداد ومن ثم فعليه أن ينتبه أن ميزان إنسانيته الحق هو تلك الوحشة من الناس ، لأنه إنما سمي إنسانا ليأنس بربه سبحانه حسب ، ولا يشرك في ذلك الأنس غيره ، لأن الله سبحانه غيور ، ولا يحب ولا يرضى أن يشرك عباده في محبته أحداً سواه ، فالإنسانية الحق هي استئناس المخلوق بخالقه حسب ، وليس استئناس المخلوق بمخلوق مثله ، فمثل ذلك الاستئناس لا نفع فيه ولا ثمرة منه ترجى ، بل ربما ينقلب وبالا على الطرفين فيحصل الظلم والجور ، أما استئناس المخلوق بخالقه فيجعله يتحلى بأخلاق ربه سبحانه ، فيكون بمن حوله رؤوفا عطوفا ودودا رحيما ، فهو لا ينظر إلى الآخر وما يفعل بل هو يفعل ما يفعل وهو ينظر إلى وجه ربه سبحانه هل يرى فيه الرضا لفعله؟؟ ومن ثم فلا يشغله شكر الآخر ، قال تعالى واصفا ذلك الحال{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً}(الإنسان/9) ، فالجائزة المرجوة هي من الحق سبحانه ، ولذلك فعباد الله الساعين في سبيل معرفتهم أمارة نجاحهم أنهم ينظرون إلى معلمهم الذي قبله الله سبحانه وجعله معلما لخلقه لأنه كان السابق إلى معرفته إذ من المعلوم أن المعرفة تتعقد في التنزيل ، ووصول الخلق إلى العالم الدنيوي جعل من المعرفة تنتقل من مرحلة البساطة {أ لست بربكم قالوا بلى} إلى الامتحان بقبول النبوة والإرسال من الغيب ، إلى التسليم والطاعة للمجعول ولياً من الله سبحانه ، إلى معرفة الدليل للاهتداء إلى سبيل الولاية بعد أن أضاعته البشرية فتاهت في صحراء المادة المهلكة ، وبلغ بها الحال إلى أنها امتلأت ظلما لمفارقتها مصدر النور الحق ، وجورا حيث عدت على بعضها فصار بعضها يأكل بعضا عندما لا يجدون في تلك الصحراء القاحلة ما يأكلونه!!!
ذلك ما بينه يماني آل محمد السيد أحمد الحسن(ع) عندما سأله أحدهم عن معنى قوله تعالى{وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة}(القيامة/) ، فكان الجواب : [أي ناظرة إلى محمد(ص) فهو المربي لهذه الوجوه الطيبة الناضرة . قال الصادق(ع) لهاشم الصيداوي: (يا هاشم حدَّثني أبي وهو خير مني عن رسول الله(ص) انه قال: ما من رجل من فقراء شيعتنا إلا وليس عليه تبعة. قلت: جعلت فداك وما التبعة ؟ قال: من الإحدى والخمسين ركعة، ومن صوم ثلاث أيام في الشهر، فإذا كان يوم القيامة، خرجوا من قبورهم ووجوههم مثل القمر ليلة البدر، فيقال للرجل منهم: سل تعط. فيقول: أسال ربي النظر إلى وجه محمد(ص). قال: فيأذن الله عز وجل لأهل الجنة أن يزوروا محمداً(ص). قال: فينصب لرسول الله(ص) منبراً على درنوك من درانيك الجنة له ألف مرقاة بين المرقاة إلى المرقاة ركضة الفرس، فيصعد محمد(ص) وأمير المؤمنين(ع)، قال: فيحف ذلك المنبر شيعة آل محمد(ع)، فينظر الله إليهم وهو قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة. قال: فيلقى عليهم من النور حتى أن أحدهم إذا رجع لم تقدر الحوراء تملأ بصرها منه، ثم قال أبو عبد الله(ع) : يا هاشم لمثل هذا فليعمل العاملون ) . ](من كتب المتشابهات2)
إذن فالمعرفة سعي تحصيلي ، وهي إذا كانت بالاتجاه العرضي الدنيوي فهي معرفة زائفة الغاية منها مادية بحتة ، وهي زخرف معرفة الغاية منها التنافس على المناصب طلبا للعلو والفساد في الأرض ، فتلك المعرفة يبتغي صاحبها من ورائها أن يتقدم صفوف الناس ويصير قائدا لهم في أي مجال سعى فيه ، وهذا التقدم ينبغي أن يكون على وفق منهج الخالق فهو سبحانه من يرفع ومن يضع ، والرفع والوضع في الدنيا هو ليس جائزة وإنما اختبار ، فأولئك الذين يكون همهم الرفع إذا ما رفعوا في الدنيا يتوهمون أن الرفع جائزة لهم فيزدادون طغيانا ، قال تعالى{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}(آل عمران/178) ، والذين يعرفون حقيقة الرفع في الدنيا يزدادون خوفا ورعبا من ذلك ، ويكون حالهم الإشفاق إلى أن يقبضوا لأنهم يعلمون بحقائق الإيمان أن الرفع في الدنيا هو استدراج وبلاء من ربهم عظيم ، ذاك أنهم موقنون أن النفس أمارة بالسوء وهي تهفوا إلى الرفعة والتسلط وهذا لأنها تدرك تماما نقصها فتسعى إلى التعويض وهذا السعي إلى التعويض يجعلها غالبا ما تخرج عن النهج الإلهي في التكامل ، إلى توهم التكامل في العمل بالنهج البشري القائم على الهوى ، قال تعالى{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}(الكهف/28) ، فتلك الغفلة مردية في الهاوية ولذلك أولياء الله سبحانه يستشعرون الخوف من إقبال الدنيا ، بل تكاد قلوبهم تذوب خوفا ووجلا كلما ازداد إقبالها ، لأن الامتحان في إقبالها أشد منه في إدبارها .
أما السعي بالاتجاه الصعودي فهو سعي لاشك في أن الصعوبة والمشقة فيه واضحة لأنه صعود مفارقة ، حتى يكون الساعي فيه مستوحشا فهو لا يرى في سبيل الارتقاء إلا قلة من السالكين ، ونفسه الإمارة بالسوء تنازعه وتقاوله ؛ مالك ولسبيل ليس يسلكه إلا قلة علائم المسكنة بادية عليهم ، وسبيل وعرة ليس فيها مراح ولا مستراح ، وتترك سبيلا فيه الكثرة والتكاثر ، والمراح والمستراح وتلتزم سبيلا كلما سرت فيه ازداد وعورة وبعدا ، وتترك آخر كلما سرت فيه ازددت قربا وسهولة ، و… ، و….؟؟؟؟؟ ولا يهدأ ذلك الصراع وتلك الحرب إلا بالفرار إلى الله سبحانه ، وحسم السعي باتجاه النور ، وبإخلاص ، وكلما ازدادت نسبة الإخلاص باتجاه النور ضعفت قدرة الظلمة على الوسوسة ، وانكشف ضعف الشيطان وكيده ، حتى يكون الساعون إلى النور بعد حسم قرارهم كما وصف أمير المؤمنين(ص) : [فهم لأنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون . إن زكي أحدهم خاف مما يقولون وقال : (أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي من غيري . اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ، فإنك علام الغيوب وساتر العيوب)]( كتاب سليم بن قيس – تحقيق محمد باقر الأنصاري:373) ، ذاك أن السائر باتجاه النور كلما كشف له حجاب من الحجب استبانت له حقيقته وازداد معرفة بجهله ونقصه ، وازداد معرفة بفضل من كشف له ذلك فتعلق به ليستره ، ونفض يديه من نفسه لأنه علم أن التعلق بها يرديه ويفضحه ، فهو يشعر بالجهد مادام حاملا لها ، ويسأل الله سبحانه أن يهوِّن عليه حمل ما ابتلاه بحمله ، فهو كلما قرب من النور توضح له ظلمه وجهله ، واستبان له قول الحق سبحانه {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}(الأحزاب/72) ، ولذلك ورد عن الطاهرين(ص) أنهم قالوا :[من عرف نفسه فقد عرف ربه] ، فمن عرف نفسه أنها ظالمة عرف ربه بالنورانية ، ومن عرف نفسه أنها جاهلة عرف ربه بالعلم ، فأسرع إلى ربه ليطهر بالنور ، ويزكو بالعلم ، وتلك هي غاية المعرفة ، أي يصل العبد إلى مرتبة أرادها له الله سبحانه حيث يكون صورة ربه سبحانه في خلقه حيث يتمثل صفاته ، ويحمل أسماءه فيكون وجه ربه المعرِّف به في الخلق .
فالله سبحانه لم يخلق الخلق لعبا ـ حاشاه ـ ولم يخلقهم ليتركهم هملا ، ولا فوض إليهم تدبير أمورهم وشؤونهم كما يتوهم المتوهمون اليوم ، بل أوجدهم كي يكونوا عباداً عارفين به معرِّفين له ، وهو لهم ربا سبحانه ، ويكون ذلك من العباد قولا وعملا ، وليس لقلة لسان حسب ، حتى لا يشغلهم شيء من أمورهم سوى الله سبحانه ، فهو سبحانه قد كفل كل أمور عباده صغيرها وكبيرها ، وكلفهم مقابل ذلك معرفته ، غير أن الغريب ما حصل من العباد عندما زهدوا ما كلفهم ربهم به ، وأقبلوا على ما كفله لهم من دون كد وعناء ، فقلبوا المعادلة الإلهية رأسا على عقب فكان هذا الذي تعيشه البشرية اليوم ؛ مصائب وبلاءات لا تعد ولا تحصى ، قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ}(سبأ/51) .