يقولون إن كتاب «نهج البلاغة» ـ وهو من الكتب المعتمدة عند الشيعة كما يعبرون ـ يتضمن مدحاً من علي «عليه السلام» لأبي بكر وعمر؛ كقوله عن عمر ذهب نقي الثوب، قليل العيب أصاب خيرها، وسبق شرها أدى إلى الله طاعته، واتقاه بحقه . – الجواب:
1 ـ إن ما يقولونه من أن علياً «عليه السلام» رثى أبا بكر بقوله: ذهب نقي الثوب، قليل العيب الخ غير صحيح. فما ورد في نهج البلاغة هو التالي: (لله بلاء فلان، فقد قوّم الأود، وداوى العمد، خلف الفتنة، وأقام السنة، ذهب نقيَّ الثوب، قليل العيب. أصاب خيرها، وسبق شرها. أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه. رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المهتدي). فما دليلهم على أنه «عليه السلام» قد عنى به عمر بن الخطاب؟ هذا أولاً!
ثم أن الطبري أخرج في تأريخه : «حدثنا عمر، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا ابن دأب وسعيد بن خالد، عن صالح بن كيسان، عن المغيرة بن شعبة، قال: لما مات عمر بكته ابنة أبي حثمة، فقالت: (واعمراه، أقام الأود، وأبرأ العمد، أمات الفتن، وأحيا السنن. خرج نقي الثوب، بريئاً من العيب). قال : وقال المغيرة ابن شعبة: (لما دفن عمر أتيت علياً «عليه السلام» وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً، فخرج ينفض رأسه ولحيته، وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب، لا يشك أن الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي حثمة، لقد ذهب بخيرها، ونجا من شرها. أما والله، ما قالت، ولكن قولت). [ انظر: تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة عز الدين ـ بيروت سنة 1405 هـ) ج2 ص218 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص285 والفايق في غريب الحديث ج1 ص50 و (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص59 وراجع: البداية والنهـايـة ج7 ص158 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص5 و 164 وتاريخ المدينة لابن شبة ج3 ص941 والكامل في التاريخ لابن الأثير ج3 ص61 وغريب الحديث لابن قتيبة ج1 ص291]. ومنه يظهر أن المغيرة قد حوَّر هذا الكلام، لأن قوله «عليه السلام»: ما قالت ولكن قوّلت، يشير إلى: أن الآخرين قد طلبوا منها أن تقول ذلك، أو أنهم قد نسبوا إليها أمراً لم تقله، وهذا لا يتلاءم مع قوله «عليه السلام»: لقد صدقت. فلعل الذي قال : يرحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت هو المغيرة.. فأجابه علي «عليه السلام» مقسماً بالله.. أنها ما قالت هي ذلك، ولكن قولت.. أي أنه أمر مدبر بليل، إما بالإملاء عليها، أو بافتراء القول على لسانها. ويدلُّ على ذلك: ذيل الكلام السابق، وهو قوله: «رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المهتدي». وقد ذكر القطب الراوندي : أنه «عليه السلام» مدح بهذا الكلام بعض أصحابه بحسن السيرة، وأنه مات قبل الفتنة التي وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ([ انظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة للراوندي ج2 ص402 وعنه في شرح نهج البلاغة للمعتزلي (ط دار مكتبة الحياة سنة 1963م) ج3 ص754 و (ط مؤسسة إسماعيليان) ج12 ص4 وراجع: مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص60 ـ 62.]. ولعل ابن أبي الحديد المعتزلي أول من زعم أن المقصود هو عمر بن الخطاب، وحجته في ذلك: أن السيد فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر حدثه: أنه وجد النسخة التي بخط الرضي.. وتحت فلان: عمر. [شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص753 و 754 و (ط مؤسسة إسماعيليان) ج12 ص4]. وهذا لا يصلح دليلاً على ذلك، إذ لا شيء يثبت أن الرضي هو الذي كتب كلمة «عمر»، فلعل صاحب النسخة ومالكها هو الذي كتب كلمة عمر تحت قوله: فلان.. وذلك اجتهاداً منه، حيث رأى ـ بزعمه ـ: أن هذه الصفات تنطبق على عمر دون سواه. ولو أن الرضي قد كتب ذلك لكان أدخله في عنوان الخطبة وشطب كلمة «فلان» من النص، كما فعل في سائر الموارد، وقال: ومن كلام له «عليه السلام» في عمر بن الخطاب. كما إن المعروف من رأي أمير المؤمنين عليه السلام في عمر بن الخطاب يخالف هذا الكلام.. كما في الخطبة المعروفة بالشقشقية. ومما يدلُّ على أن ثمة تصرفاً في النص: أن ابن عساكر يروي هذا الحديث من دون كلمة «لقد صدقت ابنة أبي حثمة» فهو يقول: (لما كان اليوم الذي هلك فيه عمر، خرج علينا علي مغتسلاً، فجلس، فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه فقال: لله در باكية عمر قالت: واعمراه، قوم الأود، وأبرأ العمد، واعمراه، مات نقي الثوب، قليل العيب، واعمراه ذهب بالسنة، وأبقى الفتنة). [تاريخ مدينة دمشق ج44 ص457 ومختصر تاريخ دمشق ج19 ص48 و 49 وكنز العمال ج12 ص700]. وزاد في أخرى :فقال علي: (والله ما قالت، ولكن قولت). [تاريخ مدينة دمشق ج44 ص458 ومختصر تاريخ دمشق ج19 ص48 و 49 ].
(صحيفة الصراط المستقيم ـ العدد 25 / السنة الثانية ـ بتاريخ 6 صفر 1432 هـ الموافق ل 11/01/2011 م)