لقد مضى الوقت سريعاً في ضيافة الله سبحانه وتعالى وها هو شهر الخير والبركات والطاعات راح يلملم أطرافه معلناً عن قرب موعد التوديع ، والأمة لاهية ساهية ، لا يبدو عليها أنها ستفارق أحب الأيام والليالي وأعظمها وأفضلها وأشرفها ، أيام فيها إعلان واضح وصريح على هجرة العبد إلى ربه سبحانه وتعالى ، هجرة ينبغي أن يتعلم منها العبد كيف يقطع حبال التعلق بهذه الدنيا الدنيئة التي حبها هو رأس كل خطيئة ، هجرة يخلو بها العبد إلى ربه سبحانه ليعرف كيف يتزود إلى قابل الأيام من فيض الله سبحانه وعطائه الذي لا ينقطع ولا تحده حدود … آه … وآه على فراق حبيب مرّ سريعا وآنس وحشتنا بكرمه وجوده ، وأطفأ عطشنا بعميم فيضه ، واستبدلنا بعطش الأبدان ريّ القلوب والأرواح ، وبجوع الأجساد إطعام النفوس والعقول ، به امتلأت النفوس حباً لما عند الله سبحانه ، وأنفت من المقام في عالم لا يعصى رب الأرباب إلا فيه … إلهي جودك بسط أملي … وعفوك أعظم من عملي ، إن كان ولابد من الرحيل فاترك لي فيه ومنه ما يقر به قلبه إلى لقائه ثانية وأنا في حماك ، والقدم ثابتة على سبيلك .
لقد درج الناس على فهم الهجرة أنها ترك الأوطان واستبدال المكان ، نعم هذا بعض معاني الهجرة وظل من ظلالها المتدنية ، الهجرة الحق هي هجرة الآرواح إلى عالمها الحق ، وهذه الهجرة تحتاج إلى ارض كي يهاجر فيها من عزم على الهجرة ، قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً}(النساء/97) ، لنبدا أخي القارئ معرفة هذه الأرض المقدسة الطاهرة التي يسالنا الله جلت قدرته أن نهاجر فيها ذاك أنها هي السبيل إليه حقاً وصدقا ، لقد عبر الحق جلت قدرته بـ(الأرض) كناية عن وسيلة السفر إليه ليبيّن لعباده الدلائل والآيات كي لا تتيه بهم السبل فيضلوا عن سبيله سبحانه . الأرض مكان للبناء والقرار والاستقرار ، ودلالة على الدولة والسلطان ، وأرض الله سبحانه دولته وسلطانه وحكومته ، والهجرة فيها لأن الهجرة تتطلب من المهاجر ، أن يتخلى عن كل ما سوى الله سبحانه بالهجرة في ارضه ؛ أي في حاكميته ، ولا يرضى بحاكمية الله سبحانه بدلا ، ذاك أن حاكمية الله هي سياسة الليل وسياحة النهار ، منهج عمل حقيقي لجعل كلمة الله هي العليا في هذا العالم أسوة بكل العوالم ولو كره الكافرون .
إن كلمة الله سبحانه هي سلطانه ، وسلطانه هو أرضه ، وأرضه هو وليه المجعول خليفة له على أرضه سبحانه ، قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة/30) ، وقال تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص/26) ، لذا من يظن ولو ظنا أن الله سبحانه أبدع خلقا منظماً من دون أن يجعل له قانونا يحكمه ، أو سلطاناً يسوسه فهو قد قد أساء الظن بالحق سبحانه ، والحق سبحانه يقول {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً}(الفتح/6) ، وليس أدل على دائرة السوء من خروج المخلوق من حكومة الله سبحانه إلى حكومة الطاغوت ، قال تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة/256) ، إذن الدين هو الحاكمية بكل معنى الكلمة ، وسمى الله سبحانه حاكميته بـ(الرشد) ، وحاكمية الطاغوت بـ(الغي) ، والعروة الوثقى هو حجة الله سبحانه (كتابه ، والناطق به) على عباده التي لا تنفصم أبداً حتى يردا على رسول الله(ص) الحوض .
فأرض الله سبحانه هي سلطانه وحاكميته ، والمهاجر فيها ينبغي عليه القيام بما يعرفه عموم الناس من الهجرة ، غير أن الاختلاف هو أن الناس تعرف ما ينبغي عليها فيما يخص الهجرة المادية حسب ، والهجرة إلى الله سبحانه تتطلب من العبد ان يلتزم وصايا الله سبحانه {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}(البقرة/197) ، ولا تقوى حقاً إلا بمعرفة ولي الله سبحانه والطاعة له والتسليم إليه ، فترى النس في الهجرة المادية يتخففون ، وعندما يصلون إلى المهجر يلتزمون قوانينه وإن كانت تصدم ما ابتنى عليه كيانه النفسي ، بل وتجد المهاجر يتفانى من أجل الذوبان في تفاصيل مهجره الجديد ، هذا استنادا إلى المفهوم المادي للهجرة ، فما بالك إذا كانت الهجرة من الظلمات إلى النور ، ومن ظلم المخلوقين إلى عدالة الخالق ، ومن فظاظتهم وغلظتهم إلى واسع رحمته ، قال تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(آل عمران/159) ، نعم حكومة الله سبحانه وحاكميته هي رحمته الواسعة وعدله الشامل الكامل وصدقه العظيم .
روي عن الإمام الصادق(ع) إنه (قال لأبي حنيفة لما دخل عليه : من أنت؟! قال : أبو حنيفة ، قال (ع) : مفتي أهل العراق؟! قال : نعم ، قال : بما تفتيهم؟! قال : بكتاب الله ، قال (ع) : وإنك لعالم بكتاب الله ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه؟!! قال : نعم ، قال : فأخبرني عن قول الله عز وجل {وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} أي موضع هو؟! قال أبو حنيفة : هو ما بين مكة والمدينة ، فالتفت أبو عبد الله(ع) إلى جلسائه وقال : نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرق؟؟؟ فقالوا : اللهم نعم ، فقال أبو عبد الله(ع) : ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا أخبرني عن قول الله عز وجل {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} أي موضع هو؟؟؟ قال : ذلك بيت الله الحرام ، فالتفت أبو عبد الله(ع) إلى جلسائه وقال : نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبد الله بن زبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟؟؟ قالوا : اللهم نعم ، فقال أبو عبد الله(ع) : ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا!!! فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب الله إنما أنا صاحب قياس ، فقال أبو عبد الله(ع) : فانظر في قياسك إن كنت مقيسا أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا؟! قال : بل القتل قال : فكيف رضي في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟! ثم قال له : الصلاة أفضل أم الصيام؟! قال : بل الصلاة أفضل ، قال (ع) : فيجب على قياس قولك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة ، ثم قال له البول أقذر أم المني؟! قال : البول أقذر ، قال (ع) : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني وقد أوجب الله تعالى الغسل من المني دون البول ، قال : إنما أنا صاحب رأي ، قال (ع) : فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد فولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث؟!! قال : إنما أنا صاحب حدود ، قال : فما ترى في رجل أعمى فقاء عين صحيح وأقطع قطع يد رجل كيف يقام عليهما الحد؟!! قال : إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء ، قال : فأخبرني عن قول الله تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى و(لعل) منك شك؟! قال : نعم ، قال : فكذلك من الله شك إذ قال لعله؟!! قال أبو حنيفة : لا علم لي ، قال : تزعم أنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس ، ولم يبن دين الإسلام على القياس ، وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله(ص) صوابا ومن دونه خطأ لأن الله تعالى قال {احكم بينهم بِما أَراكَ اللَّهُ} ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنك صاحب حدود ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك لو لا أن يقال دخل على ابن رسول الله فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء فقس إن كنت مقيسا ، قال : لا تكلمت بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس ، قال : كلا إن حب الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك)(الاحتجاج ، بحار الأنوار) .
فما أشبه اليوم بالبارحة ، وهذا برعم رسول الله(ص) الطبين السيد أحمد الحسن وصي ورسول الإمام المهدي(ص) يدعو الناس جهارا نهارا لتهاجر في أرض الله الواسعة ، ويبين للناس ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم ، وعلى الرغم من إعراض الناس عنه ورميه بما لا يرمى به أسفلهم وأدناهم ، ومحاربته ومحاربة أنصاره وإراقة دمائهم صارت هدفاً وغاية للناس ، وعلى الرغم من ذلك فهو يستشعر لهم وبهم الرحمة ويدعو لهم بالهداية وهو وريث رسول الرحمة والإنسانية(ص) القائل (اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون) عندما يمعنون في إيذائه والجرأة عليه ، ولو علم الناس اليوم حقيقة من يعادون ويعتدون عليه لبكوا بدل الدموع دماً ، بل هم اليوم يحلبونها دما عبيطاً كلما أوغلوا في هجر سبيل الله سبحانه ، والارتماء في حضن إعدائه ؛ من فقهاء السوء وخدم الطواغيت الأمريكان وعبدتهم على الرغم من كل هذه المثلات التي تنزل بهم لعلهم إلى ربهم يرجعون ، ولكن كما يبدو أن الناس استمرأت مرض الموت وكرهت الشفاء والحياة ، قال تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُون}(الدخان/10-14)