زاوية العقائد الدينية

قانون معرفة الحجة


خُلق الإنسان لغاية سامية تتمثل بمعرفة الله سبحانه ، قال تعالى : (( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ، أي ليعرفون كما ورد عن أهل البيت (ع) ، ولأجل تحقيق هذه الغاية الشريفة نصب الله قادة و أدلاء يرشدون الناس إلى الطريق القويم الذي به بلوغ الغاية ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، ويحيى من حيّ عن بيّنة ويهلك من هلك عن بيّنة .
وكان من ألطافه وحكمته جل وعلا أن وضع للناس قانوناً يعرفون به حجة الله على الخلق، ويميزونه عن الطواغيت المدعين زوراً وبهتاناً ، والقانون المشار إليه يتشكل من ثلاث حلقات ؛ أولها النص الإلهي أو الوصية ، وثانيها العلم والحكمة ، وثالثها الدعوة إلى حاكمية الله عز وجل، أو راية البيعة لله .
إن دعوة الحق – كما يشهد تأريخ الدعوات السماوية – لا يمكن أن تكون وحدها في الساحة فلابد من وجود دعوات باطلة تعارضها ، وهكذا منذ اليوم الذي أوصى فيه آدم (ع) إلى خليفته ووصيه هابيل (ع) كان قابيل يقود لواء المعارضة ويدعي لنفسه ما ليس لها . وحيث أنه لا عذر أبداً لمن يترك إتباع ولي الله وحجته على خلقه ، بل إن مصيره إلى جنهم وبئس المصير ، ولن ينفعه قوله : إني وجدت الساحة مليئة بالمدعين وتعذر عليّ تمييز المحق من المبطل ، أقول لكل ذلك وبمقتضى اللطف والحكمة الإلهية كان قانون معرفة الحجة الذي يَعرف من خلاله الناس خليفة الله في أرضه، وهو القانون الذي وُضع منذ اليوم الأول الذي جعل فيه الله سبحانه خليفة له في أرضه. وإليكم هذا المثل فاستمعوا له ( لو إن إنساناً يملك مصنعاً أو مزرعة أو سفينة ، أو أي شئ فيه عمال يعملون له فيه فلابد أن يعيّن لهم شخصاً منهم يرأسهم ، ولابد أن ينص عليه بالإسم ( النص ) وإلا ستعم الفوضى ، كما لابد أن يكون هذا الشخص أعلمهم وأفضلهم ( العلم ) ، ولابد أن يأمرهم بطاعته ( الحاكمية ) ليحقق ما يرجو وإلا فإن قصّر هذا الإنسان في أي من هذه الأمور الثلاثة فسيجانب الحكمة الى السفه ، فكيف يجوّز الناس على الله ترك أي من هذه الأمور الثلاثة وهو الحكيم المطلق ) ؟
هذا القانون بحلقاته الثلاثة نجده في القرآن الكريم، ففي قوله تعالى: (( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ))البقرة الآية/30 – 31.
في هذه الآيات الكريمة ينص الله تعالى على استخلاف آدم (ع) بمحضر من الملائكة (ع) وإبليس (لع) ، فيستجيب الملائكة للأمر الإلهي بالسجود لآدم (ع) وإطاعته فينجحوا في الإختبار الذي سيكون المحك في تحديد المؤمنين إلى يوم القيامة ، بينما يفشل إبليس ( لعنه الله ) بسبب تكبره وشعوره الطاغي بأناه ( قال أنا خير منه ) . فمحك النجاح والفشل يتمثل بإطاعة حجة الله أو خليفته المنصوص عليه ، ومثلما كان القبول والتسليم بتنصيب الله سبب نجاح الملائكة سيكون سبب نجاح المؤمنين ، وكما كان الجحود والكفر سبب فشل إبليس (لع) واستحقاقه الطرد من رحمة الله ، سيكون كذلك بالنسبة لأتباعه من الإنس والجن.
هذا النص على آدم استمر بعده بصورة وصية يوصي بها الحجة السابق إلى من يليه ، وليست هذه الوصية إلا نص من الله على الحجة ، فعن أبي عبد الله (ع) قال : ((…ثم أوحى الله إلى آدم أن يضع ميراث النبوة والعلم ويدفعه إلى هابيل ، ففعل ذلك فلما علم قابيل غضب وقال لأبيه : ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به ؟ فقال يا بني أن الأمر بيد الله وأن الله خصه بما فعلت فإن لم تصدقني فقربا قرباناً فأيكما قبل قربانه فهو أولى بالفضل وكان القربان في ذلك الوقت تنزل النار فتأكله . وكان قابيل صاحب زرع فقرّب قمحا ً رديئا ً وكان هابيل صاحب غنم فقرّب كبشا ً سمينا ً فأكلت النار قربان هابيل . فأتاه أبليس فقال : يا قابيل لو ولد لكما وكثر نسلكما افتخر نسله على نسلك بما خصه به أبوك ولقبول النار قربانه وتركها قربانك وأنك إن قتلته لم يجد أبوك بُدا ً من أن يخصك بما دفعه إليه فوثب قابيل إلى هابيل فقتله … )) قصص الأنبياء 55 .
وكما هو واضح من الآيات فإن اعتراض الملائكة على تنصيب آدم أجاب عليه الله تعالى بأنه قد زود آدم (ع) من العلم ما يمكنه من إنجاز مهمة خلافة الله في أرضه، فهو (ع) قد استحق خلافة الله في أرضه بسبب هذا المائز وهو العلم الذي منحه الله له ، فالعلم الذي يتميز به حجة الله دليل يُعرف من خلاله هذا الحجة بكل تأكيد شأنه شأن النص أو الوصية.
وقد وردت آيات كثيرة تدل على هذا المعنى منها قوله تعالى : ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)( {البقرة.247} .
أما الحلقة الثالثة من قانون معرفة الحجة فهي الدعوة الى حاكمية الله تعالى، وتتمثل في قوله تعالى: )) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ* فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(( الحجر (28ـ31) .
والسجود في الآيات هو سجود طاعة لا سجود عبادة، كما هو واضح. ومن خلاله يتبين أن الله يأمر بإطاعة الحجة، والحجة يأمر الناس بإطاعة الله وإطاعته بوصفه خليفة الله في الأرض.
وقد دلت كثير من الآيات والأحاديث الشريفة على هذا القانون، منها على سبيل المثال:
قال تعالى : (( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء )) [آل عمران/26] . وقال تعالى : ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (القصص:68) .
أما الأحاديث فمنها:
1- سُأل أبو عبد الله عليه السلام بأي شيء يُعرف الإمام قال: ( بالوصية الظاهرة وبالفضل، إن الإمام لا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم ولا بطن ولا فرج فيقال: كذاب ويأكل أموال الناس وما أشبه هذا ) الكافي:ج 1 ص314-315.
2- عن أحمد بن أبي نصر ، قال : ( قلت لأبي الحسن الرضا u: إذا مات الإمام بم يُعرف الذي بعده؟ فقال: للإمام علامات منها: أن يكون أكبر ولد أبيه، ويكون فيه الفضل والوصية … ) الكافي : ج1 ص314 .
3- عن عبدالأعلى قال : قلت لأبي عبدالله u : ( المتوثب على هذا الأمر المدعي له ، ما الحجة عليه ؟ قال يُسأل عن الحلال والحرام ، قال : ثم أقبل عليَّ فقال : ثلاثة من الحجة لم تجتمع في أحد إلا كان صاحب هذا الأمر : أن يكون أولى الناس بمن كان قبله ، ويكون عنده السلاح ، ويكون صاحب الوصية الظاهرة…) الكافي : ج1ص314.
4- عن أحمد بن عمر عن الرضا u قال : ( سألته عن الدلالة على صاحب الأمر، فقال: الدلالة عليه: الكبَر والفضل والوصية … ) الكافي ج1ص315 .
5- عن أبي بصير قال : قلت لأبي الحسن u : ( جُعلت فداك بم يُعرف الإمام ؟ قال : فقال : بخصال ؛ أما أولها فإنه بشيء قد تقدم من أبيه فيه بإشارة إليه لتكون عليهم حجة … ) الكافي ج1ص315 .
6- عن الحارث بن المغيرة النضري ، قال : ( قلنا لأبي عبدالله u: بما يعرف صاحب هذا الأمر؟ قال: بالسكينة والوقار والعلم والوصية ) بحار الأنوار : ج52ص 138 .
7- عن الصادق ( ع ) : (… إن الله لا يجعل حجة في أرضه يُسأل عن شيء فيقول لا أدري ) الكافي :ج1ص227 .
8- عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله u أنه قال للزنديق الذي سأله : من أين أثبتَّ الأنبياء والرسل ؟ قال : ( إنّا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً … الى قوله u : لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته ) الكافي :ج1ص189.
9- عن أبي الجارود، قال : ( قلت لأبي جعفر u: إذا مضى الإمام القائم من أهل البيت، فبأي شيء يعرف من يجئ بعده؟ قال: بالهدى والإطراق، وإقرار آل محمد له بالفضل، ولا يُسأل عن شيء بين صدفيها إلا أجاب ) الامامة والتبصرة :ص137.
10- عن الحارث بن المغيرة النصري، قال: ( قلت لأبي عبدالله u : بأي شيء يُعرف الإمام ؟ قال : بالسكينة والوقار . قلت : وبأي شيء ؟ قال : وتعرفه بالحلال والحرام، وبحاجة الناس إليه ، ولا يحتاج إلى أحد، ويكون عنده سلاح رسول الله . قلت : أ يكون وصياً ابن وصي ؟ قال : لا يكون إلا وصياً وابن وصي ) الغيبة للنعماني :ص249 .
11- عن أبي بصير ، قال : ( قلت لأحدهما – لأبي جعفر أو لأبي عبدالله – أ يكون أن يفضي هذا الأمر إلى من لم يبلغ؟ قال: سيكون ذلك. قلت: فما يصنع؟ قال: يورثه علماً وكتباً ولا يكله إلى نفسه) الغيبة للنعماني : ص340 .
12- قول الإمام الصادق u لأبي حنيفة : ( يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حق معرفته، وتعرف الناسخ والمنسوخ ؟ قال : نعم . قال : يا أبا حنيفة لقد ادعيت علماً، ويلك ما جعل الله ذلك إلا عند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم، ويلك ولا هو إلا عند الخاص من ذرية نبينا ، ما ورثك الله من كتابه حرفا ً) علل الشرائع : ج1: 89.
أقول : يقول تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) ، وهؤلاء هم آل محمد وهم من ورث الكتاب ، وليس لغيرهم من وراثته شيء .
13- ورد إن القائم u يحتج على الناس بالقرآن ، أي العلم ففي خطبته بين الركن والمقام ، يقول u :
(… ألا ومن حاجني في كتاب الله، فأنا أولى الناس بكتاب الله) المعجم الموضوعي: 518 – 519.
14- عن هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ بُرَيْهٍ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ مَعَهُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u … إلى قوله : ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْعَلُ حُجَّةً فِي أَرْضِهِ يُسْأَلُ عَنْ شَئ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي﴾ الكافي : باب أن الأئمة ع عندهم جميع الكتب.
15- وعن صالح بن أبي حماد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، قال : ( كنت كتبت معي مسائل كثيرة قبل أن أقطع على أبي الحسن ( عليه السلام ) ، وجمعتها في كتاب مما روي عن آبائه وغير ذلك ، وأحببت أن أتثبت في أمره وأختبره ، فحملت الكتاب في كمي وصرت إلى منزله وأردت أن آخذ منه خلوة ، فأناوله الكتاب ، فجلست ناحية وأنا متفكر في طلب الإذن عليه ، وبالباب جماعة جلوس يتحدثون ، فبينا أنا كذلك في الفكرة والاحتيال في الدخول عليه ، إذ أنا بغلام قد خرج من الدار وفي يده كتاب ، فنادى : أيكم الحسن بن علي الوشاء ابن بنت إلياس البغدادي ؟ فقمت إليه : وقلت : أنا الحسن بن علي الوشاء ، فما حاجتك ؟ قال : هذا الكتاب أمرت بدفعه إليك فهاك خذه ، فأخذته وتنحيت ناحية فقرأته ، فإذا والله فيه جواب مسألة مسألة ، فعند ذلك قطعت عليه ، وتركت الوقف) عيون أخبار الرضا ( ع ): 2 : 228 / 1- بحار الأنوار :ج37ص 49 : 44.
16- وورد عن الإمام الصادق u : ( إن ادعى مدع فاسألوه عن العظائم التي يجيب فيها مثله ) الغيبة للنعماني :ص 178 .
مما تقدم يتضح أن من أهم الدلائل التي يُعرف بها حجة الله في أرضه هي الوصية والعلم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى