قال الألباني عن حديث: (( يقتتل عند كنزكم ثلاثة. كلهم ابن خليفة. ثم لا يصير إلى واحد منهم. ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق. فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم ثم ذكر شيئاً لا أحفظه. فقال “ فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج. فإنه خليفة الله، المهدى” ))، قال عنه: ( منكر ) لكن الحديث صحيح المعنى ؛ دون قوله : فإن فيها خليفة الله المهدي .
( وإسناده حسن ) وهذه الزيادة : خليفة الله ليس لها طريق ثابت فهي منكرة ولا يجوز في الشرع أن يقال : فلان خليفة الله . لما فيه من إيهام ما لا يليق بالله تعالى من النقص والعجز ………….. إلى قوله: والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف ؛ بموت أو غيبة ويكون لحاجة المستخلف وسمي خليفة ؛ لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى وهو منزه عنها فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب … ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولا يقوم مقامه إنه لا سمي له ولا كفء فمن جعل له خليفة فهو مشرك به ).
الجواب:
أولاً: قوله بأن ( خليفة الله المهدي ) منكرة، لا يعدو الاجتهاد والرأي، وما أكثر الآراء الباطلة الموهومة التي لا يحسن سماعها فضلاً عن الإصغاء لها.
فقد قاس الألباني أعمال الله تعالى بأعمال المخلوقين، حيث توهم بما أن الخليفة للمخلوق هو من يخلفه بعد موته أو غيابه … الخ، والله لا يغيب ولا يموت ولا يعجز، إذن لا يمكن أن يقال بأن له خليفة !!! وهذا قياس مع الفارق ، فليس كل ما ثبت للمخلوق مما يستلزم العجز ينتفي وصف الله به على الإطلاق، فإن ( اليد ) مثلا عند المخلوق جزء منه وهو محتاج لها وإثباتها يعني انه مركب وليس بسيطاً، ولكن هذا لا يعني انه لا يجوز نسبة اليد إلى الله تعالى، فقد نطق القرآن والسنة بذلك، ولكن يقيناً أنها لا تقاس بأيدي المخلوقين من حيث الاحتياج لها والجزئية والتركيب والمادية … الخ، فالله منزه عن ذلك، فاليد لها معان كثيرة في لغة العرب، كالقوة والقدرة والنعمة والفضل … الخ.
فعندما نقول: ( خليفة الله ) لا يعني ذلك أبداً أن الله محتاج إلى هذا الخليفة أو أن الله غائب أو ميت سبحانه وتعالى علوا كبيراً، بل معناه : أن الله استخلفه لمباشرة الحكم في خلقه وسياستهم بما علمه الله تبارك وتعالى، لأن الله تنزه أن يباشر جميع خلقه بالكلام والسياسة … ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقد جوز الفخر الرازي هذا المعنى في تفسيره ج26 ص199، حيث قال: (…. ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان: الأول: جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى، وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه، وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة، وذلك على الله محال. الثاني : إنا جعلناك مالكا للناس ونافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة ، ومنه يقال خلفاء الله في أرضه ، وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته .. ).
ثانياً: قوله: ( وهذه الزيادة : خليفة الله ليس لها طريق ثابت ).
أقول تقدم – في مقال سابق – إثبات صحة طريقها وبيان فساد رأي الألباني، وأنها قد نقلها ابن ماجة بسند صحيح، وكذلك الحاكم النيسابوري على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
إطلاق لفظ خليفة الله في الروايات عندهم :
ثالثاً: هناك امر قد فات الألباني الالتفات إليه من قول عمر بن الخطاب عن الخلافة أنها ( خلافة الله ) أي انه نسبها لله تعالى، فهل أن عمر برأي الألباني كافر ؟!
صحيح مسلم ج2 – باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً … ص81: ( … وان أقواما يأمرونني أن استخلف وان الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم … ). فعمر هنا ينسب الخلافة إلى الله تعالى، وأكيد أن القائم بها حقيقة هو خليفة الله جل جلاله.
وأيضاً روى أحمد بن حنبل في مسنده ج5 ص403: رواية فيها لفظ ( خليفة الله ): عن أبي التياح قال سمعت صخرا يحدث عن سبيع قال أرسلوني من ماء إلى الكوفة اشترى الدواب فأتينا الكناسة فإذا رجل عليه جمع قال فأما صاحبي فانطلق إلى الدواب وأما أنا فأتيته فإذا هو حذيفة فسمعته يقول: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير واسأله عن الشر فقلت يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر قال نعم قلت فما العصمة منه قال السيف أحسب أبو التياح يقول السيف أحسب قال قلت ثم ماذا قال ثم تكون هدنة على دخن قال قلت ثم ماذا قال ثم تكون دعاة الضلالة قال فان رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فألزمه وان نهك جسمك وأخذ مالك فإن لم تره فاهرب في الأرض ولو أن تموت وأنت عاض بجذل شجرة … ).
وفي مستدرك الحاكم ج3 ص79: ( حدثنا ) يحيى بن منصور القاضي ثنا أبو بكر محمد بن محمد بن رجاء ثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ثنا يحيى بن سليم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال ولينا أبو بكر فكان خير خليفة الله وارحمه بنا وأحناه علينا * هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه *
وفي منتخب مسند عبد بن حميد – عبد بن حميد بن نصرالمتوفي سنة 249هـ ص295 ح949: أنا عبد الرزاق أنا معمر عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( احتج آدم وموسى عليهما السلام فقال موسى أنت خليفة الله بيده أسكنك جنته وأسجد لك ملائكته فأخرجت ذريتك من الجنة وأشقيتهم فقال آدم عليه السلام أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه ورسالته تلومني في شئ وجدته قد قدر علي قبل أن أخلق قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى ).
ولكن الأهم من ذلك هو استعمال من يسمونهم السلف لها دون نكير، كما في أثر كميل المشهور، فإن قيل إن الأثر فيه ضعف من حيث الصناعة، قيل وإن كان فيه ضعف فإنه من الشهرة بمكان حتى قال فيه ابن عبد البر في الجامع: “وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني بشهرته عن الإسناد لشهرته عندهم”، ومع شهرته لم يُنقل استنكار أحد من أهل العلم فيه قول علي –ع – فيه: “أولئك خلفاء الله..”، بل الذي نقل عنهم يدل على إقرارهم بحسن معناه، فقد قال الخطيب: “حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً” [الفقيه والمتفقه ص50]، ونقل كلامه ابن القيم في مفتاح دار السعادة مقراً [1/123].
وقد رُويت أيضاً عن سعيد بن جبير عندما سأله الحجاج ما تقول في أبي بكر فقال: “خليفة الله ..” [الحلية 4/295]، ودأب أهل السير على ذكر تلك الحادثة في سياق ما يسمونه مناقبه وقد جاءت كذلك عن الحسن البصري في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وقد رواه ابن جرير في تفسير الآية (ومن أحسن قولاً) ورجاله ثقات غير أنه من رواية معمر بن راشد عن الحسن، وإنما أدرك منه جنازته، وقال بعض الأئمة بينهما عمرو بن عبيد، وأشار الزيلعي في تخريج الأحاديث والآثار (الكشاف) [1/213] إلى طريق أخرى رواها بقية بن الوليد عن حسان بن سليمان عن أبي نضرة عن الحسن، ولايصح لعنعنة بقية كدأبه عن من لايعرف، وقد روي مرفوعاً بأسانيد واهية لاتثبت بها حجة.
أبو مسلم الخولاني في عبارته لقوم عندما قتل عثمان وكانوا قد حجوا من المدينة فسألهم: هل مررتم بإخوانكم من أهل الحجر؟ فقالوا: نعم! قال: كيف رأيتم صنيع الله بهم؟ قالوا: صنع الله بهم ذلك بذنوبهم. قال: فإني أشهد أنكم عند الله مثلهم. فلما سأله معاوية علل بقوله: قتلوا ناقة الله، وقتلتم خليفة الله، وأشهد على ربي لخليفته أكرم عليه من ناقته! [ينظر تالي تلخيص المتشابه 2/383، وكذلك تاريخ مدينة دمشق 27/220- 39/491].
لفظة خليفة الله في أقوال علمائهم وفتاواهم:
تفسير الرازي – الرازي ج22 ص43: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) * ( النور : 55 ) أي أن يصيروا خلفاء الله في أرضه.
ابن القيم في مفتاح دار السعادة [1/152] فقد حكى قول الفريق المجيز وذكر أدلته وسرد النصوص التي تفيد استخلاف الله للإنسان في الأرض كقوله تعالى: (يادواد إنا جعلناك خليفة) (إني جاعل في الأرض خليفة)، (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض) وغيرها من آثار تناقلتها رواة الأخبار، ثم ذكر اعتراض المانعين بأن الخليفة إنما يكون عمن يغيب ويخلفه غيره في الحكم والتدبير، ثم قال [1/152]: “وحقيقتها خليفة الله الذي جعله خلفاً عن غيره، وبهذا يخرج الجواب عن قول أمير المؤمنين: أولئك خلفاء الله في أرضه“،
الفيومي في المصباح المنير: ” قال بعضهم ولا يقال خليفة الله بالإضافة إلا لآدم وداود لورود النص بذلك . وقيل يجوز وهو القياس لأن الله تعالى جعله خليفة كما جعله سلطانا وقد سمع سلطان الله وجنود الله وحزب الله وخيل الله والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وعدم السماع لا يقتضي عدم الاطراد مع وجود القياس ولأنه نكرة تدخله اللام للتعريف فيدخله ما يعاقبها وهو الإضافة كسائر أسماء الأجناس”[ص178]
ابن تيمية على الرغم من كلامه في المسألة في منهاج السنة وغيرها، قال عن عمر بن عبد العزيز [الفتاوى 27/93]: “وقد كان رضي الله عنه وهو خليفة الله على الأرض قد وكل أعواناً يمنعون الداخل من تقبيل الأرض“،
ابن القيم الذي نقل التفصيل البديع الذي أشار إليه البحث المحال عليه نقلاً عن العلامة بكر نقلاً عن مفتاح دار السعادة، فلم يحرمها بل نفى أن تحتمل معنى باطلاً فقط حصرها المانعون فيه، وحملها على محمل مقبول، ثم نقل في الزاد القول بالكراهة عند إطلاقها للسلطان، ومما يدلك على أنه أراد بذلك التفصيل المشار إليه، هو تخريجه لعبارة علي ع عنه في أثر كميل بن زياد: “أولئك خلفاء الله في أرضه” . وأيضا الفصل الذي عقده في بدائع الفوائد بعنوان: “الإنسان خليفة الله في الأرض”.
الطبري : في تفسير قول الله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة)، “ذكر الطبري أن مقتضى ما نقله السدي عن مشايخه أنه خليفة الله في الأرض” [فتح الباري 6/364]، يعني آدم عليه السلام.
رواية حسنها الألباني
(( … تكون هدنة على دخن : … ثم تكون دعاة الضلالة ، فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فألزمه ، وإن نهك جسمك ، وأخذ مالك ، وإن لم تره فاضرب في الأرض ، ولو أن تموت وأنت عاض على جذل شجرة … )) .
الراوي :حذيفة بن اليمان المحدث: الألباني– المصدر: صحيح الجامع – الصفحة أو الرقم: 2995 خلاصة حكم المحدث: حسن
فتوى العثيمين في جواز الإطلاق
** الفتوى52- سئل فضيلة الشيخ: عن قول الإنسان لرجل: (أنت يا فلان خليفة الله في أرضه)؟
فأجاب بقوله : إذا كان ذلك صدقاً بأن كان هذا الرجل خليفة يعني ذا سلطان تام على البلد ، وهو ذو السلطة العليا على أهل هذا البلد ، فإن هذا لا بأس به ، ومعنى قولنا ( خليفة الله ) أن الله استخلفه على العباد في تنفيذ شرعه ، لأن الله – تعالى – استخلفه على الأرض ، والله – سبحانه وتعالى – مستخلفنا في الأرض جميعاً وناظر ما كنا نعمل ، وليس يراد بهذه الكلمة أن الله تعالى يحتاج إلى أحد يخلفه ، في خلقة ، أو يعينه على تدبير شئونهم ، ولكن الله جعله خليفة يخلف من سبقه ، ويقوم بأعباء ما كلفه الله .
** أيضاً ـ ابن عثيمين في تفسير قوله : (يا داود إنا جعلناك خليفة) . قال “خالف لنا في تبليغ شرعنا، وليس المراد أنه يأتي بعده ولكن خليفة لله في تبليغ شرعه وحكمه للناس“.
…………………………………………………………………………………………………
( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 19 – السنة الثانية – بتاريخ 30-11-2010 م – 24 ذو الحجة 1431 هـ.ق)