المقولة الأولى والأهم التي يفترق بها الشيعة عن السنة، هي قول الشيعة إن الخليفة أو الحاكم أو الإمام يتعين بالنص الإلهي عليه، بينما يذهب السنة إلى القول بأن الناس تختاره، ولهم في طريقة الاختيار أقوال من أهمها طريقة الشورى، على أنهم قد يقولون أحياناً بالنص. إذن لننظر قبل كل شيء إلى ما يقوله القرآن الكريم حول هذه المسألة الجوهرية، وكما يلي. – الآيات التي تدل على التنصيب الإلهي للحاكم:- 1- قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. تنص الآية الشريفة على أن منصب الخلافة أو الإمامة جعل أو تنصيب وتعيين من الله تعالى، فآدم (ع) مجعول من الله تعالى خليفة في الأرض. والذي يدل على أن المراد هو الإمامة وليس الاستخلاف العام للبشر الذي نطقت به آيات أخرى، هو أن الخليفة في الآية المباركة زُود بعلم لا تملكه حتى الملائكة، قال تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }. ومعلوم أن بني آدم ليسوا جميعهم يملكون هذا العلم، وكيف وفيهم من هو كالأنعام بل أضل سبيلاً، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }. كما أن الأمر بالسجود للخليفة، وهو سجود طاعة لا سجود عبادة كما هو واضح، يدل على أن طاعته مفترضة، حتى بالنسبة للملائكة، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }. ويدل عليه كذلك إن الملائكة حين قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) بكّتهم الله عز وجل بقوله: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )، ومعلوم أن بني آدم يفسدون ويسفكون الدماء، بخلاف الإمام أو الخليفة، فلو كان كل البشر هم المقصودون لم يكن لتبكيت الملائكة موجِب. إن التعبير القرآني الذي جاء بصيغة اسم الفاعل: ( جَاعِلٌ )، الذي وقع خبراً لـ ( إن ) يدل على أن الخليفة موجود في كل زمان فلا يخلو منه زمان، ذلك أن صيغة الفاعل ( جَاعِلٌ ) بمنزلة الفعل المضارع الذي يفيد الدوام والإستمرار، وهذا الجعل يناظر ما ورد في القرآن الكريم من قبيل قوله تعالى : ( جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِـلَـلاً ) و( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ) ونحوهما، وهي تفيد معنى السنة الإلهية الثابتة. والحق إن دوام الخلافة واستمرار وجود الخليفة وحده يجعل اعتراض الملائكة غير ذي موضوع. إذ لو افترضنا عدم وجود الخليفة أو الإمام في زمن معين فلن يكون المعنى من الخليفة هو الإمام وإنما مطلق الناس، وهؤلاء ثبت أنهم يفسدون فلماذا تم تبكيت الملائكة إذن؟ إن تبكيت الملائكة يكون له وجه فيما لو كان المراد وجود من لا يفسد في الأرض وهو الإمام. وقد يقال هنا أن الخلافة جعلت لآدم لكونه نبياً، وهي بالتالي لا تشمل غير النبي، فنقول إن هذا الفهم يخالف ما ثبت من أن الخلافة مستمرة في الزمان، بينما النبوة من الله منقطعة، ومعلوم أن النبوة من الله تعالى تستلزم وسيطاً بين الله والنبي يقوم بنقل الوحي والعلم، وهو المَلَك، وهذا لا يتم لأن الملائكة كلهم شملهم الامتحان، وكلهم لم يعرف الأسماء التي كانت معرفتها علة الخلافة، وعلة سجودهم لآدم، قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ }، فالسجود شملهم كلهم أجمعون. وسيتضح هذا المعنى أكثر فيما يلي من أدلة. إن من يذهب إلى القول بأن المقصود من الخليفة هو مطلق الإنسان قد يبني على أساس ما ورد من آيات كريمة من قبيل قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }. والآية كما هو واضح بصدد بيان خلافة المؤمنين للكافرين في ديارهم، وتمكينهم من دينهم بعد الخوف، والاستخلاف هنا إذن ليس هو خلافة عن الله تعالى. وقوله تعالى: { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون }. وهو واضح كذلك في خلافة المؤمنين للأرض، أي بسط نفوذهم فيها بعد إهلاك العدو، فهو خلافة المؤمنين للكافرين في ديارهم، أيضاً. فموسى (ع) يبشر المؤمنين إنهم إذا صبروا يفعل بهم الله ذلك. وقوله تعالى: { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين }. والمراد من الاستخلاف هنا هو خلافة قوم لقوم، لا خلافة الله تعالى. وقوله تعالى: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون }. وهو مثيل سابقاته. فالمؤمنون يخلفون الظالمين في ديارهم، من بعدهم. وقوله تعالى: { آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير }. وهذه الآية بصدد الحديث عن الأموال التي جعلهم الله مستخلفين عليها. وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }. الآية تحذرهم من أنهم إذا ما تولوا يستخلف الله غيرهم في أرضهم وديارهم، ولا دلالة فيها على خلافة الله في أرضه. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }. فهم خلائف الأرض، أي يرثونها من غيرهم، وليسوا خلفاء لله فيها. وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ }. هم خلائف من قد أغرقهم الله في الطوفان، فورثوا أرضهم وديارهم. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً}. المراد من الاستخلاف في هذه الآية هو جعل البشر خلفاء في الأرض لعمارتها، وهو ليس الاستخلاف الخاص الذي يتطلب علماً مخصوصاً. إن العلم المخصوص الذي أُعطي للخليفة يدل على أنه ليس كل النوع البشري، وإنما هو نمط خاص منهم. وعلى أية حال ورد في التفاسير هذا المعنى وهو مخصوصية الخليفة وكونه حاكماً أو إماماً، وسأنقل هنا بعض كلمات المفسرين في هذا الصدد:- أ- جامع البيان – ابن جرير الطبري: ( فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي ، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه )، وهو تأكيد واضح لما قلنا. ب – تفسير الثعلبي: ( في معنى الخليفة قيل: سأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، طلحة والزبير وكعبا وسلمان: ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري. فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله، فقال كعب: ما كنت أحسب أن في المجلس أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري ، ولكن الله عز وجل ملأ سلمان حكما وعلما وعدلا ). وفيه بيان أن الخليفة هو الحاكم. ج- تفسير السمعاني، قال في صدد تفسير الآية: ( وقيل : إنما سمى خليفة لأنه خليفة الله في الأرض ؛ لإقامة أحكامه ، وتنفيذ قضاياه ، وهذا هو الأصح ). د – تفسير النسفي: ( ( إني جاعل ) * أي مصير من جعل الذي له مفعولان وهما * ( في الأرض خليفة ) * وهو من يخلف غيره فعيلة بمعنى فاعلة وزيدت الهاء للمبالغة والمعنى خليفة منكم لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذريته ولم يقل خلاف أو خلفاء لأنه أريد بالخليفة آدم واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كما تستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك مضر وهاشم أو أريد من يخلفكم أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك أو خليفة مني لأن آدم كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي قال الله تعالى * ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) ). النسفي يذهب إلى القول بأن آدم (ع) خليفة الله، وكذلك كل نبي، ويستشهد بقوله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض )، وفيه دلالة جلية على أن الخليفة بمعنى الحاكم. هـ- زاد المسير: ( وفي معنى خلافة آدم قولان : أحدهما : أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه ، ودلائل توحيده ، والحكم في خلقه ، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد . والثاني : أنه خلف من سلف في الأرض قبله ، وهذا قول ابن عباس والحسن ). القول الأول نص فيما قلناه، وستأتي مناقشة القول الثاني. ومثله ورد في تفسير الرازي: ( الثاني : إنما سماه الله خليفة لأنه يخلف الله في الحكم بين المكلفين من خلقه وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والسدي وهذا الرأي متأكد بقوله : * ( إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) ). وكذلك في تفسير العز بن عبد السلام: ( ( خليفة ) * الخليفة من قام مقام غيره ، خليفة : يخلفني في الحكم بين الخلق ، هو آدم صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ذريته ، أو بنو آدم يخلفون آدم ، ويخلف بعضهم بعضا في العمل بالحق ، وعمارة الأرض ، أو آدم وذريته خلفاء من الذين كانوا فيها فأفسدوا ، وسفكوا الدماء ). تفسير القرطبي: ( والمعنى بالخليفة هنا – في قول ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل – آدم عليه السلام ، وهو خليفة الله في إمضاء أحكامه وأوامره ، لأنه أول رسول إلى الأرض ، كما في حديث أبي ذر ، قال قلت : يا رسول الله أنبيا كان مرسلا ؟ قال : ( نعم ) الحديث ويقال : لمن كان رسولا ولم يكن في الأرض أحد ؟ فيقال : كان رسولا إلى ولده ، وكانوا أربعين ولدا في عشرين بطنا في كل بطن ذكر وأنثى ، وتوالدوا حتى كثروا ، كما قال الله تعالى : ” خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ” [ النساء : 1 ] . وأنزل عليهم تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير . وعاش تسعمائة وثلاثين سنة ، هكذا ذكر أهل التوراة . وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة ، والله أعلم . الرابعة – هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة . ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه ، قال : إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك ، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحق من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك . ودليلنا قول الله تعالى : ” إني جاعل في الأرض خليفة ” [ البقرة : 30 ] ، وقوله تعالى : ” يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ” [ ص : 26 ] ، وقال : ” وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ” [ النور : 55 ] أي يجعل منهم خلفاء ، إلى غير ذلك من الآي . وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا لهم الخبر في ذلك ، فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ، ولقال قائل : إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم ، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك ، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين ، والحمد لله رب العالمين ). القرطبي في هذا النص المقتبس من تفسيره يؤكد كون آدم خليفة لله في الأرض، وأن خلافته تعني الإمامة، وإنها ركن من أركان الدين. وإذا كان القرطبي يقحم في النص رأيه بأبي بكر، فإننا سنرى لاحقاً حظ رأيه هذا من الصحة. تفسير البيضاوي: ( والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه والهاء فيه للمبالغة والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى * ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) * ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ). البيضاوي بدوره يؤكد المعنى الذي قلناه، ويعلل ضرورة وجود خليفة لله بفكرة أن قصور المستخلف تقتضي وجود واسطة تستقبل الفيض الإلهي. تفسير ابن كثير: ( خليفة ” قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . قالوا : ربنا وما يكون ذاك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا . قال ابن جرير فكان تأويل الآية على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه ، وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه ). ابن كثير ينقل عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة أن الخليفة هو خليفة لله يخلفه في الحكم. وأضاف ابن كثير في موضع آخر من تفسيره قوله: ( وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ). تفسير الجلالين: (* أذكر يا محمد * ( إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) * يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم ). وهو واضح في أن الخلافة بمعنى الحكم. تفسير الثعالبي، وهو في صدد تفسير الآية: ( وقال ابن مسعود : إنما معناه : خليفة مني في الحكم ). تفسير الآلوسي: ( ومعنى كونه خليفة أنه خليفة الله تعالى في أرضه ، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى ، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية ، وذاته تعالى في غاية التقدس ، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى . وقيل : هو وذريته عليه السلام ، ويؤيده ظاهر قول الملائكة ، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه ، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم ، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف ، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار ، أو أنه يخلف بعضهم بعضا ، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلي له سبحانه وتعالى ، والجامع لصفتي جماله وجلاله ). وزاد الآلوسي في موضع آخر قوله: ( ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام ). وهو واضح في استمرار الخلافة إلى قيام الساعة، وقوله الإنسان الكامل تقييد أخرج به خلافة غير الكامل. أضواء البيان – الشنقيطي: ( في قوله : * ( خليفة ) * وجهان من التفسير للعلماء : أحدهما : أن المراد بالخليفة أبونا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ؛ لأنه خليفة الله في أرضه في تنفيذ أوامره ). وأضاف قوله: ( قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة ؛ يسمع له ويطاع ؛ لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم إلى أن قال : ودليلنا قول الله تعالى : * ( إني جاعل في الأرض خليفة ) * . وقوله تعالى : * ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ) * . وقال : * ( وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) * . أي : يجعل منهم خلفاء إلى غير ذلك من الآي ). والملاحظ على المفسرين السنيين أنهم ينقلون آراء متعددة في المسألة، ومن بينها قولهم أن خلافة آدم تعني خلافته للملائكة الذين سكنوا الأرض بعد القضاء على المفسدين الذين كانوا يسكنوها، وهو معنى يناقضه تعليم آدم الأسماء. فالعلم بها يراد منه تأهيله لمهمة خلافة الله، ولم يكن الغرض منه منع الجنس البشري من الفساد، وكيف وهو حاصل، بل إن الله سبحانه لم ينف وقوع الفساد من الجنس البشري، فالعلم وامتحان الملائكة به يثبت أنهم غير مؤهلين لخلافة الله، بعكس آدم (ع)، بل إن نفس اعتراض الملائكة ( قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) يدل على أنهم فهموا من الخلافة خلافة الله تعالى، فدلالة قولهم هي أنهم يستنكرون أن يكون الخليفة لله مفسداً، ولو كانت الخلافة لأولئك المفسدين لم يكن موجب لهذا الاستنكار.
1٬303 11 دقائق