قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) (الأعراف:96). إن التقدم في العلوم الإلهية والروحية ربما يرافق تقدم في العلوم المادية ، بل إن التقدم المادي يرافق التوجه والتقدم الروحي حتما. قال تعالى (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجـن:16).
فالدين اهتم بكل جوانب البشر: الروحية و الإقتصادية و السياسية و المادية.. الخ فهو يشمل كل ما يتعلق بهذا المخلوق المكلف لكي يسد حاجاته و يتقرب لحبيبه سبحانه.
حتى أنه روي أن العالم الفيزياوي اينشتاين اليهودي الديانة استقى نظريته النسبية ، والعلاقة بين الطاقة والمادة ، وتحول كل منهما إلى الأخرى من نظرية وحدة الوجود الدينية الفلسفية.
يقول الإمام أحمد الحسن عليه السلام في كتابه الجهاد باب الجنة:
{الانسان خلق ليعرف الله سبحانه وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) اي ليعرفون فنحن نعبد لنعرف و لا خير في عبادة لا تقرب صاحبها إلى الله وبالتالي تزيده معرفة بالله سبحانه وتعالى . أي أن الإنسان خلق للكمال الروحي والإرتقاء الى أعلى مراتب هذا الكمال الممكن للإنسان إذن فالمهم والمنظور هو الروح لا الجسد المتعلق بهذا العالم المادي الجسماني والإنسان يكون خليفة الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى أي إذا تكامل روحيا حتى يصبح صورة الله سبحانه وتعالى في خلقه فيكون خليفته حقاً ، ويوجد من يحاول جعل الإنسان خليفة الله فقط على الأجسام والطين مع أن الله لم ينظر إلى الأجسام منذ خلقها كما ورد عن رسول الله (ص) ، ويحاول هؤلاء الجهلة جعل هدف الإنسان المرجو بل والغرض من خلقه هو تحقيق التقدم المادي الجسماني .
بينما القرآن بين لنا العلاقة بين التقدم المادي الجسماني والتكامل الروحي هكذا (كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) اي ان الغنى المادي والتقدم المادي داعٍ الى طغيان الإنسان وانحطاطه الروحي وهذا منظور اليوم في حياة البشرية على هذه الارض ، فالأرض لم تعرف فساداً وإفساداً وظلماً وطغياناً كما هو حاصل اليوم . وربما ينتفض بعض الناس الذين أنسوا هذا العالم المادي حيث أنهم يرون الكمال في التقدم المادي ، مع أنهم لو التفتوا لوجدوا هذا العالم المادي الجسماني يسير إلى الزوال بل هو في زوال مستمر فكل يوم يموت أُناس ويحيا آخرون بل سيأتي يوم يموت فيه الجميع ولايحيا أحد مكانهم (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) والتقدم المادي الكبير اليوم يشير إلى قرب هذا الزوال (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) .
أما الارواح فهي باقية ومصيرها الخلود في الجنة أو النار في النعيم أو الجحيم .
فيجب أن يلتفت الانسان أنه جاء إلى هذا العالم المادي الجسماني ليخوض الامتحان لاليبقى أو ليخلد فيه بل أن هذا العالم المادي الجسماني كله مصيره إلى الزوال والفناء نعم الله يحث المؤمنين على تحقيق التقدم المادي الجسماني ليتحقق لهم الغنى عن الكافرين والمنعة والعزة لصد المحاربين (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) ولكن يجب أن يكون هذا التقدم المادي نابعا ومرافقا لإيمان حقيقي ومسيرة تكامل روحي مستمرة للمؤمنين . لكي لايكون صاداً لهم عن ذكر الله والانصياع لأمر الله سبحانه وتعالى بل هو إذا كان كذلك فسيرافقه توفيق إلهي عظيم (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ، فالله سبحانه وتعالى عندما يذيق من يرجو إيمانهم وتقواهم نقصاً في الثمرات والبركات يرحمهم بهذا لأنه يدفعهم إلى الإيمان والتقوى حيث أن الضعف والفقر داعٍ للتوجه إلى الله في الحديث القدسي ( ياابن عمران إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحبا بشعار الصالحين ) .
أما إذا آمن أهل الارض واتقوا الله فماذا يفعل الله بعذابهم وأي نفع له سبحانه في نقص ثمراتهم وبركة أرضهم وأعمالهم بل هو وعدهم ( لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) .
إذن يجب أن يكون سعي وحركة الانسان تجاه التكامل الروحي والايمان الحقيقي أما التقدم المادي الجسماني فأيضاً يسعى له الانسان من منظار التكامل الروحي أي أن يكون السعي للتقدم المادي طاعة لله ولتحقيق إرادة الله على هذه الأرض من نشر التوحيد والرحمة والعدل .
أما تقدم الكفار المادي فلا يظن المؤمنون أنه توفيق إلهي أو خير لهم بل هو شر لهم لأنه سبب لتماديهم في الطغيان والتكبر على إرادة الله سبحانه وتعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) وتكون الدنيا وزخرفها سبباً لسكرهم وإبتعادهم عن الله (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) فأي خسارة أعظم من أن يكون الانسان عدو الله وأي مكسب أبخس من الدنيا وزخرفها (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ)
الحضارة المادية والحضارة الأخلاقية والجهاد}.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(صحيفة الصراط المستقيم/عدد33 /سنة 2 في 08/03/2011 – 2 ربيع الثاني 1432هـ ق)