هذا البحث رحلة في بعض آيات الكتاب الحكيم، وبعض ما ورد عن آل محمد عليهم السلام من روايات حارت فيها أذهان المفسرين والعلماء، وشرقت وغربت، بل إن بعض فقهاء السوء الوهابيين حملوها محامل مصدرها نفوسهم المنحرفة، فقالوا شرك وكفر وما شاكل ذلك من كلمات يكثرون من ترديدها دون تدبر أو روية، وسنورد الروايات والآيات أولاً، ثم بعد ذلك نحدد مضامينها على ضوء ما ورد في كتاب التوحيد للسيد أحمد الحسن.
في المقال الأول قرأنا بعض الآيات، والروايات الواردة عن آل محمد عليهم السلام، وتبينا منها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة عليهم السلام قد وُصفوا بلسان الروايات بأنهم آلهة، وإلى هذا المعنى أشارت الآيات القرآنية، وسنحاول في هذا المقال الوقوف عند معنى الإلوهية والربوبية.
لنعلم أولاً أن الاسم ( الله ) هو اسم للذات الإلهية التي تجمع كل الصفات الكمالية، فهو صفة جامعة للصفات. ومعنى ( الله ) هو الذي يؤله إليه في الحوائج ويُقصد لسد النقص من كل جهة، فالخلق يألهون إليه من أجل أن يكملوا ويدفعوا النقص عن صفحات وجودهم. ومعنى الرب أي الذي يُفيض الكمال على الخلق ويسد نقصهم. فهو إله من جهة أن الخلق المفتقرين يألهون له لسد نقصهم، وهو رب من جهة أنه الكامل الذي يفيض عليهم الكمال ويسد نقصهم.
والإلوهية والربوبية ليستا كنهه أو حقيقته سبحانه وتعالى بل هما صفاته، فهو سبحانه وتعالى تجلى لخلقه الفقراء بالكمال المطلق فكان هو الإله المطلق ( الله سبحانه وتعالى ) الذي يألهون إليه لسد نقصهم، وتجلى لخلقه الفقراء بالربوبية فأفاض على نقصهم الكمال ليعرفوه ويعبدوه حق عبادته، فالعبادة دون معرفة فارغة عن المعنى فضلا عن الحقيقة، فحيث أن هوية الخلق هي الفقر فلابد أن تكون المواجهة بالغنى، فواجه سبحانه وتعالى الظلمة والنقص والعدم بالنور والوجود والكمال.أي واجه خلقه بالذات أو ( الله ) أو مدينة الكمالات الإلهية.
ورد ( عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَاشْتِقَاقِهَا؛ اللَّهُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ ، فَقَالَ ع : يَا هِشَامُ ، اللَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلَهٍ وَإِلَهٌ يَقْتَضِي مَأْلُوهاً وَالِاسْمُ غَيْرُ الْمُسَمَّى ، فَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ دُونَ الْمَعْنَى فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئاً ، وَمَنْ عَبَدَ الِاسْمَ وَالْمَعْنَى فَقَدْ أَشْرَكَ وَ عَبَدَ اثْنَيْنِ ، وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنَى دُونَ الِاسْمِ فَذَاكَ التَّوْحِيدُ ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ ؟ قَـالَ : قُلْتُ : زِدْنِي ، قَالَ : لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلَهاً وَلَكِنَّ اللَّهَ مَعْنًى يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُهُ ، يَا هِشَامُ الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ ، أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ فَهْماً تَدْفَعُ بِهِ وَتُنَاضِلُ بِهِ أَعْدَاءَنَا الْمُتَّخِذِينَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَهُ ، قُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَـالَ : نَفَعَكَ اللَّهُ بِهِ وَثَبَّتَكَ يَا هِشَامُ ، قَالَ : فَوَ اللَّهِ مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى قُمْتُ مَقَامِي هَذَا )[ الكافي : ج1 ص87 ح2].
من هذا نفهم أن الإله والرب اسمان مشتقان، ويمكن بالتالي أن يُطلقا على الكامل الذي يؤله له الناس طلباً للكمال، فيكون هذا الكامل إلهاً من جهة أن الناس يألهون له طلباً للكمال، ويكون رباً من جهة أنه يُفيض أو يمنح الكمال لمن يفتقر له. ولهذا نجد يوسف ع وهو نبي وفي القرآن الكريم يعبر عن فرعون نسـبة إلى ساقي الخمـر بأنه ربه ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِـينَ ﴾.
وأيضاً يعبر يوسف عن عزيز مصـر الذي تكفّـل معيشـة يوسف والعنايـة به بأنه ربي ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾. والذي أحسن مثواه بحسب الظاهر وفي هذا العالم الجسماني هو عزيز مصر ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْـوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيـلِ الأَحَادِيـثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
وورد عن الصادق ع في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ﴾، قال: ( رب الأرض إمام الأرض ، قيل : فإذا خرج يكون ماذا ؟ قال : يستغني النـاس عن ضوء الشمس ونـور القمـر بنوره ويجتزؤون بنور الإمـام )[ مستدرك سفينة البحار : ج4 ص47].
إذن علينا أن نميز بين الاسم (الله) وبين الكنه والحقيقة، فالاسم (الله) هو صفة وليس هو الكنه والحقيقة. ولو تساءلنا الآن لماذا تجلى سبحانه وتعالى لخلقه من خلال صفة الإلوهية، فالجواب هو: إن غاية المعرفة هي معرفة الكنه أو الحقيقة، وأقصى ما يمكن أن يعرفه الخلق من الكنه والحقيقة هو أن يعرفوا أنهم عاجزون عن معرفتها.
ومن هنا تجلى سبحانه وتعالى لخلقه بالإلوهية التي هي الكمال المطلق المواجه لنقصهم والذي يحثهم بالتالي على التأله له، ليحصلوا على المعرفة في هذه المرتبة، أي مرتبة الإلوهية، وهي معرفة تؤهلهم لمعرفة العجز عن معرفته في مرتبة الكنه والحقيقة التي يُشار لها بضمير الغائب (هو).
فالمعرفة إذن محدودة بمعرفة الذات الإلهية لا الكنه والحقيقة، ومعرفة الذات الإلهية تكون بمعرفة (الأسماء والصفات)، أي معرفة إن الله راحم برحمة والرحمة ذاته، وقادر بقدرة والقدرة ذاته، وهكذا.
والأسماء والصفات فانية في الذات الإلهية (الله) وهي عين الذات، كما إن الذات الإلهية فانية في الكنه والحقيقة التي هي المطلب والمقصود الحقيقي في العبادة ومن هنا فلا يوجد انفصال عن الذات الإلهية كما أن الذات الإلهية أو الله ليست منفصلة عن الحقيقة بل هي تجلي وظهور للكنه والحقيقة.
وهكذا يكون التوحيد في مرتبته الأولى هو معرفة انطواء جميع الأسماء في الذات الإلهية، وإنها غير منفكة عن الذات بل هي الذات عينها، ومعرفة أن جميع هذه الأسماء والصفات هي لجهة حاجة الخلق إليها. فوجودها من جهة افتقار الخلق لا من جهة متعلقة به سبحانه وتعالى بل انه سبحانه وتعالى تجلى بالذات للخلق ليُعرف، ومعرفته سبحانه وتعالى بمعرفة الذات أو الله. أما تمام معرفته فبالعجز عن معرفته سبحانه وتعالى عما يشركون، أي العجز عن معرفته في مرتبة الكنه أو الحقيقة.
من هنا فإن التوحيد الحقيقي هو التوجه إلى الحقيقة والكنه والتخلي عن أي معرفة والاعتراف بالعجز المطلق عن أي معرفة سوى إثبات الثابت الذي يشير له ضمير الغائب (هو). فالذين يعبدون الذات أو ( الله ) نسبة إلى هذه المرتبة هم مشركون من حيث لا يشعرون فضلاً عمن سواهم ، فيجب إن تكون الذات أو الله قبلة للكنه والحقيقة فهي المقصود بالعبادة دون من سواها.
فالذات هي حجاب الكنه والحقيقة ولا يعرف ما بعد الحجاب إلا باختراق الحجاب ولا يخترق الحجاب إلا بالمعرفة, فإذا عرف الخلق فناء الأسماء الإلهية في الذات أو الله، وعرف أحدية الذات ونظر فيها ومن خلالها باعتبارها حجاب الكنه والحقيقة عرف أن تمام معرفة الحقيقة هي العجز عن المعرفة.
تجلي الإلوهية في الخلق :-
إن معنى الرب هو المربي، ومعنى الإله هو الذي يؤله إليه في سد النقص وتحصيل الكمال، وكما إن الرب يمكن أن يصدق على الأب بالنسبة لأبنائه فيقال رب الأسرة إذا كان المنظور من علاقته مع أبنائه هو وما يفيضه عليهم ، كذا يمكن أن تصدق صفة الإله على الأب إذا كان المنظور من علاقة أبنائه به هم وما يطلبونه منه.
من هنا يمكن أن يصدق إطلاق الإله على خاصة من أنبياء الله ورسله الذين كانوا بحق صورة الله سبحانه وتعالى في الخلق، أي إنهم تحلوا بصفات الله، وكل بحسبه.
فالله تعالى فطر الإنسان ليصل إلى هذه المرتبة، أي مرتبة ( الله في الخلق ) فوصلها خاصة من خلق الله سبحانه وتعالى كمحمد وعيسى ع.
ولكن إلوهية هؤلاء الخلق إلوهية فقيرة إليه سبحانه وتعالى أي إنهم يؤله إليهم في قضاء الحوائج وسد النقص وتحصيل الكمال وهم يقضون الحوائج ويسدون النقص ويكملون الخلق ولكن بحول وقوة وبإذن الله فلا حول ولا قوة لهم إلا بالله كما إنهم لا يقدرون على تحريك ساكن إلا بإذن الله. فإلوهيتهم ليست من نوع إلوهيته سبحانه. بلى هم صورته سبحانه وأسماؤه الحسنى، وهم وجه الله الذي واجه به خلقه فبصفة اللاهوت التي اتصفوا بها تعرف إلوهية الله الحقيقية سبحانه وتعالى.
وأيضا هم ليسوا آلهة تُعبد من دونه ولا آلهة تعبد معه سبحانه كما تبين بل هم عباد مخلوقون يسدون النقص ويهبون الكمال بالله وبإذن الله سبحانه وهذا معنى اتصافهم بصفة الإلوهية، فهم ليسوا شيئاً من دون الله، بل خلق من خلقه قائمون به سبحانه فليس لهم مرتبة الإلوهية الحقيقية، وإنما هم تجلي الإلوهية الحقيقية في الخلق، أي إن إلوهيتهم في مرتبة الخلق، وهذا هو معنى إلوهيتهم وهو معنى إنهم الله في الخلق ومعنى إنهم صورة الله ومعنى إنهم وجه الله وأسماؤه الحسنى وأيضا معنى إن الله معنا.فمن عرفهم إذن يكون قد عرف الله، ومن جهلهم جهل الله لان الله سبحانه واجه سواهم من الخلق بهمولأنهم الصورة التي تحاكي اللاهوت الحقيقي.
إن عطاء الله سبحانه وتعالى يصل مع عبده المخلص إلى درجة أن يعطيه كله فيخاطب عبده: ( أنا حي لا أموت وقد جعلتك حياً لا تموت، أنا أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون ) وهذا هو الاتصاف بصفة الإلوهية في الخلق. فالعبد يوصف ببعض أوصاف الإلوهية، ولكن مع ملاحظة فقره، فهذا العبد حي لا يموت ويقول للشيء كن فيكون وهي صفات الإلوهية، ولكن الذي جعله هكذا هو الله سبحانه وتعالى وهو يحتاج ويفتقر إلى الله ليبقى هكذا، أما الله سبحانه وتعالى فقد كان ولا يزال وسيبقى حياً لا يموت ويقول للشيء كن فيكون دون أن يحتاج أو يفتقر إلى أحد، وهذا يميز بوضوح الفرق بين الإلوهية في الخلق ( أو وجه الله أو يد الله أو طلعة الله في ساعير أو ظهور الله في فاران ) التي مثلها خاصة أوليائه كمحمد وعيسى ع وبين الإلوهية الحقيقية المطلقة المحصورة بالله سبحانه وتعالى.
………………………………………………………………………………………………..
( صحيفة الصراط المستقيم – العدد 5 – السنة الثانية – بتاريخ 24-8-2010 م – 13 رمضان 1431 هـ.ق)