تتميم:
قال ابن أبي الحديد المعتزلي وهو في صدد كلام أبي بكر: وقد اختلف الرواة في هذه اللفظة، فكثير من الناس رواها: ( أقيلوني فلست بخيركم ) ، ومن الناس من أنكر هذه اللفظة ولم يروها، وإنما روى قوله: (وليتكم ولست بخيركم) .
واحتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة . ومن رواها اعتذر لأبي بكر فقال: إنما قال : أقيلوني، ليثور ما في نفوس الناس من بيعته، ويخبر ما عندهم من ولايته، فيعلم مريدهم وكارههم، ومحبهم ومبغضهم. فلما رأى النفوس إليه ساكنة، والقلوب لبيعته مذعنة، استمر على إمارته وحكم حكم الخلفاء في رعيته، ولم يكن منكراً منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته.
قالوا: وقد جرى مثل ذلك لعلى عليه السلام ، فإنه قال للناس بعد قتل عثمان: دعوني والتمسوا غيري، فأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً. وقال لهم: اتركوني، فأنا كأحدكم، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، فأبوا عليه وبايعوه، فكرهها أولاً، ثم عهد بها إلى الحسن عليه السلام عند موته.
قالت الامامية: هذا غير لازم، والفرق بين الموضعين ظاهر، لأنّ علياً عليه السلام لم يقل: إني لا أصلح، ولكنه كره الفتنة، وأبو بكر قال كلاما معناه: إني لا أصلح لها، لقوله: ( لست بخيركم )، ومن نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة، لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره ([1]).
ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي تعليقاً على كلام أمير المؤمنين ع المتقدم: وهذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره، ويقولون: أنه عليه السلام لم يكن منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه وآله ، وإن كان أولى الناس بها وأحقهم بمنزلتها، لأنه لو كان منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاز له أن يقول: ( دعوني والتمسوا غيري ) ، ولا أن يقول: ( ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم )، ولا أن يقول: ( وأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً ) ([2]).
وهذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره ، ويقولون : أنه عليه السلام لم يكن منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه وآله ، وإن كان أولى الناس بها وأحقهم بمنزلتها ، لأنه لو كان منصوصا عليه بالإمامة من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاز له أن يقول : “ دعوني والتمسوا غيري ” ، ولا أن يقول : ” ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ” ، ولا أن يقول : ” وأنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا ” . وتحمله الامامية على وجه آخر فيقولون : إن الذين أرادوه على البيعة هم كانوا العاقدين بيعة الخلفاء من قبل ، وقد كان عثمان منعهم أو منع كثيرا منهم عن حقه من العطاء ، لان بنى أمية استأصلوا الأموال في أيام عثمان، فلما قتل قالوا لعلي عليه السلام: نبايعك على أن تسير فينا سيرة أبى بكر وعمر لأنهما كانا لا يستأثران بالمال لأنفسهما ولا لأهلهما، فطلبوا من علي عليه السلام البيعة، على أن يقسم عليهم بيوت الأموال قسمة أبى بكر وعمر ، فاستعفاهم وسألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير بسيرتهما، وقال لهم كلاما تحته رمز ، وهو قوله : ” إنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وإن الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكرت ” .
قالوا: وهذا كلام له باطن وغور عميق ، معناه الاخبار عن غيب يعلمه هو ويجهلونه هم، وهو الانذار بحرب المسلمين بعضهم لبعض ، واختلاف الكلمة وظهور الفتنة . ومعنى قوله : “ له وجوه وألوان ” أنه موضع شبهة وتأويل ، فمن قائل يقول : أصاب على ، ومن قائل يقول : أخطأ ، وكذلك القول في تصويب محاربيه من أهل الجمل وصفين والنهروان وتخطئتهم ، فإن المذاهب فيه وفيهم تشعبت وتفرقت جدا . ومعنى قوله : الآفاق قد أغامت ، والمحجة قد تنكرت ” أن الشبهة قد استولت على العقول والقلوب ، وجهل أكثر الناس محجة الحق أين هي ، فأنا لكم وزيرا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أفتى فيكم بشريعته وأحكامه خير لكم منى أميرا محجورا عليه مدبرا بتدبيركم ، فإني أعلم أنه لا قدرة لي أن أسير فيكم بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله في أصحابه مستقلا بالتدبير ، لفساد أحوالكم ، وتعذر صلاحكم .
وقد حمل بعضهم كلامه على محمل آخر ، فقال : هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه ، يقول لهم : دعوني والتمسوا غيري ، على طريق الضجر منهم ، والتبرم بهم والتسخط لأفعالهم ، لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل ، واختاروا عليه ، فلما طلبوه بعد أجابهم جواب المتسخط العاتب .
وحمل قوم منهم الكلام على وجه آخر ، فقالوا : إنه أخرجه مخرج التهكم والسخرية ، أي أنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا فيما تعتقدونه ، كما قال سبحانه : ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) أي تزعم لنفسك ذلك وتعتقده .
واعلم أن ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدليل قد دل على ذلك ، فأما إذا لم يدل عليه ، دليل فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره ، ونحن نتمسك بالظاهر إلا أن تقوم دلالة على مذهبهم تصدنا عن حمل اللفظ عن ظاهره ، ولو جاز أن تصرف الألفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدف ويصد عنها ، لم يبق وثوق بكلام الله عز وجل وبكلام رسوله عليه الصلاة والسلام ؟ وقد ذكرنا فيما تقدم كيفية الحال التي كانت بعد قتل عثمان ، والبيعة العلوية كيف وقعت، انتهى.
الشبهة الخامسة: ( والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ، ولا في الولاية إربة . ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها ).
والإشكال الذي يصوره البعض هو: أن علي بن أبي طالب ع يقسم بأنه لا رغبة له في الخلافة، فهل أنه قسم كاذب؛ وبما أنه لا يمكن أن يكون كاذباً فيتعين أن يكون صادقاً وعليه فلو كانت الخلافة حق له ومنصوص عليه فكيف يقسم بأنه لا رغبة له فيها؟
فمن ذلك نعلم أن علياً غير منصوص عليه.
والجواب عن ذلك:
أولاً: هناك فرق بين القول بأنه ع لاحق له في الخلافة وبين عدم رغبته فيها، فعدم الرغبة فيها شيء وعدم أحقيته شيء آخر، فمثلاً: لو جعلوا في المدرسة مديراً فشاكسه أحد الطلاب كثيراً فقال مدير المدرسة إني لا رغبة لي في هذا الطالب، فهل معنى ذلك أنه ليس له حق عليه ؟
الجواب: كلا.
إذن يوجد فرق بين عدم الرغبة وعدم الأحقية، والإمام ينفي عدم الرغبة في الخلافة عليهم بمعنى الإمرة الفعلية والسلطوية لا أنه يريد التنصل من منصبه الإلهي الذي خصه الله به سبحانه، وقد تقدم أن المنصب الإلهي لخليفة الله لا يشترط فيه ممارسة الإمرة والسلطة الفعلية على الأمة، فكثير خلفاء الله لم يتأمروا على الأمة على الرغم من بقاء صفة الخلافة عليهم، فهذا عيسى على الرغم من أنهم أرادوا صلبه ورفعه الله إليه ودفع عنه الصلب إلاّ أنه يبقى خليفة الله المنصوص عليه، فالخلافة غير متقومة بممارسة الخليفة الحكم فعلياً، بل متقومة بتنصيب الله له فقط.
فالإمام علي ع ينفي عدم رغبته لقيادة هذه الأمة التي خذلته مراراً وتخلت عن مسؤليتها وتنصلت عن مواقفها التي لا بد أن تقفها مع خليفة الله الحق وهو علي بن أبي طالب ع؛ ولذا تراه يذكرهم بأنهم هم من دعوه للولاية وللإمرة عليهم وحملوه عليه، لكنهم خذلوه بعد أن أصرّوا على مبايعته.
فهو ع يقسم على نفي رغبته في الولاية والأمرة الفعلية عليهم بسبب معرفته بعدم الطاعة له وامتثال أوامره، لا أنه ينفي أحقيته بالخلافة.
ثم إن الإمام علي ع لم يوجه هذا الكلام للخلص من أصحابه بل وجهها إلى جمهور القوم الذين يظنون أنّ خلافته كخلافة من سبقة من الخلفاء ولم يفهموا بأنه منصب من قبل الله تعالى وخليفته في الأرض، فهم بالأمس يبايعون الخليفة الأول والثاني والثالث ويركنون لهم مدعين أنهم أحق بالخلافة من علي بن أبي طالب ع، وجاء هؤلاء في زمن قد أثرت على الإسلام خلافة الخلفاء الثلاثة مما يصعب معه إرجاعهم إلى الخط الرسالي الصحيح الذي خطه الرسول محمد (ص)؛ لأنهم لا يطيقون ذلك كما صرّح قائلاً:( فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان. لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول. وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب. وإن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم . وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أميراً).
وأوضح لهم بأنه لا إربة له بالخلافة أي لا حاجة دنيوية له فيها كما كان للذين سبقوه إلاّ أن يحق حقاً أو يبطل باطلاً، فهم لا يتحملون عدله الذي يريد إقامته؛ لذا فهم لا يتحملون خلافته وإمارته عليهم.
ولهذا عندما قام بتغييرات جذرية فعزل الولاة وبدّل القادة ، ونقل مركز الخلافة من المدينة إلى الكوفة وغير التوزيع المالي فأخذ يساوي في العطاء ، فتبين أن هذا الوضع الجديد لم يكن يعجبهم، لهذا خرج عليه الخوارج من المارقين والقاسطين والناكثين، ولم يعطوا له فرصة طيلة فترة خلافته إلى أن قتلوه في محراب صلاته، صلوات الله وسلامه عليه.
فعلي بن أبي طالب ع يُقسم على عدم رغبته لقيادتهم لا عدم أحقيته في الخلافة، وهناك فرق بين الأمرين.