مع منهج المعترضين على خلفاء الله في أرضه، وبعد استعرض أمور سبعة، هذا هو ثامنها.
الثامن: ((طلب المعجزة)):
ليس بعيداً عن سنة المعترضين في استعجال العذاب والتكذيب بلا دليل والاتهام والقتل والسخرية وغيرها مما يوحدهم في اعتراضهم على خلفاء الله في أرضه، نجد أن طلب المعجزة من غير ما أتى به الرسل أمر آخر عليه يتوحدون وبه يستنون. وفي حقيقة الأمر ليس فقط لا دليل لديهم على طلبهم هذا – وإلا لبيّنوه ولما اكتفوا بطلبٍ أضحوا فيه قوماً شابهوا من سبقهم من المعترضين – بل الدليل القاطع على خلافه، بل إنّ طلب (آية) من غير آيات خلفاء الله وبيناتهم التي أرسلوا بها إلى أقوامهم ورفض ما جاءوا به هي سنّة لأقوام اعترضت على ربها في خلفائه وأصرّت على إنكارهم، فكان من مصيرهم ما حدثنا الله سبحانه عنه في كتابه الكريم.
إذن، فلنسمع أولاً لكتاب الله وهو يتحدث عن رسل الله لما يبعثون بالآيات والبينات التي يريدها الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ...﴾ الروم: 47. وهذه الآيات والبينات التي يأتي بها الرسل أقوامهم هي آيات المرسِل سبحانه، ولذا ينسب ربهم الآيات إليه: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ هود: 96، وفي آيات الله التي يأتي بها رسله ذكرى لعبد صابر وشكور ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ إبراهيم: 5، وكل الرسل كذلك، فهم يأتون أقوامهم بآيات الله وبيانته قبل الطلب، وهي وحي لرسله ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ الرعد: 30.
وإحدى آيات الله وبيناته المرسل بها رسله شهادته سبحانه لهم بالحق: ﴿… وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾ النساء: 79، كما أن التزكية وتعليم الكتاب والحكمة آية أخرى من آياته التي يرسل بها رسله سبحانه: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 151. ولابد أن تبقى مساحة للإيمان بالغيب ليتحقق الامتحان الإلهي للخلق حتى بعد إرسال الله الرسل بآياته البينة، تلك هي سنته سبحانه في طلب الإيمان بالغيب من خلقه ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ… وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ الحديد: 25. فهو لا يريد من العبد إيماناً قهرياً – والذي يحصل بالمعجزة القاهرة على الإيمان – ولا يقبل مثل هكذا إيمان كالذي حصل لفرعون من إيمان، قال تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، فقد أعلن إيمانه وإسلامه، ولكنه سبحانه لم يقبله ﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ يونس: 90 – 91.
فما الذي كان قد عصاه فرعون، وما هو إيمانه الذي لم يقبله الله تعالى ؟ أما معصية فرعون فهو تكذيبه بآيات الله التي جاء بها موسى (ع) محتجاً على فرعون وملئه وقومه، ولكنه أبى إلا الصد والجحود والكفر، بل استقبالها بالضحك والاستهزاء ﴿فَلَمَّا جَاءهُم – أي موسى (ع) – بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ حتى وصل به الحال إلى أن يتبع موسى (ع) ومن آمن به ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً﴾، ولما رآهم قد تجاوزوا البحر ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ وقد فلقه الله لهم بضربة موسى له بعصاه أراد أن يتبعهم بجيشه فنزل البحر، فلما أدركه الغرق أعلن إيمانه برب موسى ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾، أي إنه إيمان بعد رؤيته للمعجزة القاهرة التي تلجئه إلى الإيمان بالله ولا تبقي للإيمان بالغيب مساحة أبداً، والآيات التي كانت تبقي للغيب مساحة أتى بها موسى(ع) من قبل ولكنهم كفروا بها واستخفوا، فماذا بقي غير الهلاك من خلال آية ومعجزة قاهرة.
فهل يكون ذلك درساً – وأي درسٍ – لقوم يعقلون اليوم ويخافون ربهم ويكفّوا عن طلبهم من داعي الله أحمد الحسن (ع) أن يأتيهم بآية قاهرة تلجئهم إلى الإيمان قهراً وإلجاءً كالذي انتظره فرعون من موسى (ع)، فأين الإيمان بالله، وأين امتحانه لكم، ليظهر من خلقه لخلقه – وإلا فحقائق الأشياء كلها بيده سبحانه – مقدار إيمانهم بآياته وغيبه أو كفرهم بها واستهزائهم، كالذي يحصل من الأمة اليوم في استقبالها لآيات الله التي أرسل بها حجته ؟!
والله سبحانه يريد من خلقه أن يتعظوا بما فعل فرعون، وأن لا يكرروا طلبه وينتهجوا نهجه، وإلا فيكون مصيرهم مصيره، فلا تغفلوا عن ذلك يرحمكم الله، قال تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ يونس: 92.
ثم لو نظرنا إلى بعض ما يطلب المعجزة اليوم نجده من كبراء القوم وممّن يدعي علماً بدين الله، يطلب ذلك وهو يقرأ قوله تعالى لحبيبه وسيد رسله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ﴾ غافر: 78، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ الرعد: 38. وفي الحقيقة هم مستهزئون حتى وهم يطلبوا ما طلبه فرعون، وإلا بماذا يفسر بعضهم – وهو يدّعي التخصص في قضية الإمام المهدي (ع) – طلبه من السيد أحمد الحسن (ع) أن يحوّل لحيته البيضاء إلى سوداء ؟! وآخر أن يضمر شيئين في نفسه ويطلب من داعي الحق أن يجيبه عليهما ؟! وهكذا، في حين أنّ ما جاءهم به السيد أحمد الحسن(ع) هو آيات بينات كما جاء بها خلفاء الله أقوامهم، وصية وعلم وحكمة وراية البيعة لله وخلق وعشرات بل مئات من الروايات التي وصفته في غاية الدقة، وحلّه لمتشابه القران والدين وإجابته عن عظائم الأمور التي جعلها آل محمد (ع) إحدى علامات التعرف على داعي الحق من ولدهم، فهل يعتبرون ما طلبوه من عظائم الأمور التي يتوقف عليها الإيمان والكفر، وبها يعرف حجة الله ؟!
لا والله، ما قدروا الله حق قدره ولا رعوا حرمة لآياته وبيناته، وإلا فأين فائدة علم الرسل وحكمتهم، وأين ذهبت كتب الله وتزكيته التي يأتي بها الرسل، وأين هو موضع قانونه في حججه لما حكاه في كتابه وهو يجعل آدم (ع) خليفة له، وأراده سبحانه أن يكون درساً لكل طلاب الحقيقة في كيفية التعرف على خلفائه في أرضه، أين ذهب كل هذا حتى تقترحوا مناهج السحرة والشياطين سبيلاً للتعرف على حجج الله ؟!! ولكنها سنة الله في المعترضين الواحدة في القول والفعل والمنهج بل في كل تفاصيلها.
ثم إنّ ما يأتي به الرسل والحجج من آيات وبينات هي في الحقيقة كلها آيات معجزة للغير عن الإتيان بمثلها، فمَنْ غير الحجج يستطيع أن يأتي بوصية من الحجج السابقين عليه تذكره باسمه وصفته ؟ ومن منهم يستطيع أن يأتي بحكمة الرسل وعلمهم بالكتاب والتزكية ؟ ومن غيرهم يستطيع أن يأتي بشهادة من الله على صدقه فيقف الملكوت كله مؤيداً وناصراً ؟ وهكذا في كل آياتهم التي يأتون بها، وهي كلها معاجز كما نلاحظ. ولكن المعترضين في الحقيقة – وليس بدعاً منهم المعترضون اليوم – في طلبهم للآية (من غير ما أتى به الرسل) ليس هو شوقاً منهم للتعرف على آيات الله، كيف وطلبهم هذا لم يطلبه مؤمن بالله أبداً، بقدر ما هو استعجال للعذاب بطلب الآية القاهرة والملجئة التي تكون مع العذاب قريناً كما عرفنا.
وليس قليل ما أتى به الرسل من آيات الله وبينات الهدى، فماذا يطلبون إذن بعد آيات الهداية من آيات ؟ لم يبقَ إلا آية العذاب، وهي قصدهم لما يطلقوا لفظ المعجزة ويقولوا: فليأتنا بمعجزة، فليأتنا بمعجزة. وهذا تلخيص ما مر بعبارة موجزة:
- المعجز هو ما يعجز البشر العادي أن يأتي بمثله.
- المعجزة آية، وآيات الله التي بعث بها خلفائه كلها معاجز، ولكنهم يطلبون آية عذاب.
- هم يطلبون آية قاهرة ملجئة لا مساحة للإيمان بالغيب بعدها، ومثل هذا غير مقبول عند الله.
- هم يطلبون ما لا ينفع الإيمان بعده، وفي الحقيقة هم يطلبون آية لهلاكهم.
- هم يطلبون آية تنقلهم مباشرة للنتيجة، والحال أنه سبحانه اراد آيات الهداية قبل ذلك ويكون ما يطلبونه نتيجة للتكذيب بها، فهم يستعجلون آيات العذاب قبل آيات الهداية، فكأنهم يقولون لربهم: آتنا بنتيجة كفرنا الآن، ولا تطيل معنا، وأبدل رحمتك علينا غضباً في الحال.
- هم في الحقيقة يريدون رفع ما لأجله كلفهم ربهم من بين المخلوقات وهو التعقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب الجنان، فإنّ الله سبحانه ميز الإنسان بتعقله لآيات الله، والآيات القاهرة والتي لا ينفع الإيمان بعدها تسلب هذه الخصيصة من الإنسان الذي اختصّ بالتكليف لأجلها.
وأخيراً: هم ينتظرون (بعض آيات ربك) في قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ الأنعام: 158، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: (الآيات: الأئمة، والآية المنتظرة: القائم (ع)، فيومئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف وإن آمنت بمن تقدم من آبائه (ع)) كمال الدين: ص336 ح8، والقوم اليوم ينتظرون مجيء ما لا ينفع الإيمان عند حصوله.
والحمد لله رب العالمين