لا زلنا مع المعترضين في منهجهم في الاعتراض والصد عن خلفاء الله في أرضه، وقد بينا أمور أربعة توحدهم.
الخامس: (( استخفاف أئمة الضلال بأقوامهم )):
إنّ مما يتوحد عليه المعترضون على خلفاء الله في أرضه في منهجهم أيضاً هو استخفاف إمام الضلال بقومه وحملهم – ولو بكلمة واحدة منه – على رفض دعوات المرسلين وحربهم وقتالهم، وإنها لفاجعة مرّة أن يسلّم الإنسان مصيره لجرّت قلم ليد أثيمة أو كلمة باطل نطق بها سيده، وتكون النتيجة أن تقاتل الأقوام المنتظرة من تنتظرهم من خلفاء الله بوعي منها أو بدونه، فهي أمة مستخفة إذن استُنهضت فلبّت فأسرعت فقاتلت، ولا تدري من تقاتل !!
فمن جهة نرى أن رسول الله (ص) يسعى أن يسمعهم آيات ربه وعلمه وحكمته، ونراهم يضعون أصابعهم في آذانهم بل يكثروا اللغو عسى أن يضيع صوته ولا يُسمع ما يقول في زحمة الضجيج والتهريج، ويطلب كتفاً ودواة ليكتب لهم كتاباً في ليلة وفاته يعصمهم من الضلال أبداً، فيقول هذا ويقول ذاك فيكثر اللغط ويطردهم. وأعجب منه من يصرّ على أن النبي (ص) لم يكتب وصيته هذا وهم يتلون كتاب الله فيقرؤون قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ البقرة: 180، وأحاديث أهل البيت (ع) الواردة في تأكيد هذه الحقيقة وأنه (ص) قد أوصى وكتب وصيته وسلمها لوصيه أمير المؤمنين (ع) وأشهد عليها كما نص القرآن بذلك أيضاً. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ المائدة: 106.
ثم تروى رواية الوصية المقدسة وشواهدها في أمهات مصادرنا ولا رواية غيرها توصف بأنها وصية رسول الله (ص) ليلة وفاته، وفيها يحدد الخلفاء من بعده ويذكر أسماء الاثني عشر إماماً الواردين فيها ثم اسم ووصف أول المهديين (أحمد) من المهديين الاثني عشر الواردين فيها أيضاً، فيصرون على رفض (أحمد) الذي جاءهم اليوم محتجاً بها، هذا وهم يقرؤون ايضا في روايات الطاهرين أنّ الوصية دليل خلفاء الله فلا تنفرد عنهم ولا يأتون من دونها ولا يأتي بها غيرهم أبداً، كما تقدم توضيحه.
ونموذج آخر لاستخفاف الأمة: بعض الفتاوى التي صدرت لإنكار اللقاء بالإمام المهدي (ع) ومشاهدته لا في هذا العالم ولا في عالم الرؤيا، ولا أعرف في أي عالم يكون في زمن الغيبة الكبرى؟؟ وأمامنا عشرات الروايات في ذلك، ومئات ما ينقل في قصص اللقاء بالإمام (ع) من علماء وغيرهم ، وها هي كلمته (ع) الكاشفة عن عظم جريمة هذه الأمة في زمن الغيبة ومقدار جفائها وعدم تعقلها لأمره وقبولها بفعله: (لا لأمره تعقلون ولا من أوليائه تقبلون) أو تردونها أيضاً؟!! وفيها من الشيء الكثير الذي سيكشفه أولياء الله لما يحين وقته.
وليس غريباً هذا الإنكار والاعتراض من قبل السادة الكبار، ولكن ما بال أقوام استخفهم هؤلاء فألفوهم لدعوتهم مستجيبين، ولقتال آل محمد ملبّين مسرعين؟! حقاً إنها سنة الله المستمرة كلما بعث الله خليفته داعياً إليه، فهذا فرعون (لعنه الله) يحدثنا عنه رب العزة فيقول: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾ الزخرف: 54، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي …﴾القصص: 38 – 39، ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الشعراء: 49، ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف: 127.
نطق إمام الكفر (فرعون) فقال: ما لكم من اله غيري، وكيف يجرؤ موسى على أن يجعل لكم اله غيري أو أن يفكر بذلك؟ فلا تسمعوا لما يقوله، ومن هو؟ ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾، وبارك الملأ والبلاط هذه الفتوى ولبوا مسرعين لما استخفهم بها وكذلك الأتباع ﴿فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾، هذا شق من فتواه، وأما الشق الآخر المرتبط بالمتمردين والخارجين على قانون فرعون الذي باركته الحاشية وأهل الخبرة وهم موسى ومن ناصره فمصيرهم: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، ولم ترَ الحاشية الوفية أنّ ذلك يلبي طموحها في القضاء على دعوة موسى (ع) واستئصالها، فتستنهضه أكثر في القضاء على الثلة المؤمنة رغم قلتها وإبادتهم بالمرة: ﴿قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ﴾، لا يجوز ذلك أيها المفدى، فيجيب طلبهم ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾، ثم أيها الأوفياء ماذا تقترحون بعد سجن الرجال المؤمنين وقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم ثم قتل الأبناء واستحياء النساء؟!
وهكذا بفتوى واحدة استخف إمام الضلالة قومه فلبوه طائعين، وخليفة الله موسى (ع) يأتيهم بعشرات الآيات والبينات فلم يجد إلا الكفر جواباً. ولكل عصر موسى وفرعون، وعلي ومعاوية، والحسين ويزيد، داعي إلى الله مع قلة تنصره وطاغية يستخف قومه – وهم لا يحصى عددهم كثرةً – لقتال خليفة الله وأنصاره.
السادس: ((استعجال العذاب)):
مع نقطة أخرى من نقاط وحدة المنهج الذي يعتمده المعترضون على خلفاء الله في أرضه عند إرسالهم وهي “استعجال العذاب”، وبها يضاف شاهد آخر على عدم تبدل سنن الله أو تحولها .
فقد قالوا – والقائل في كل مرة سادة المعترضين وملئهم المحيط بهم، وأما الأتباع فهم منقادون دوماً ولا يعقلون شيئاً – لنوح (ع): ﴿قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ هود: 32، واستعجل قوم هود (ع) العذاب فقالوا له: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ الأعراف: 70، وكذلك قوم صالح (ع)، فقالوا: ﴿… فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ الشعراء: 154، فأجابهم رأفة بهم: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ النمل: 46، واستعجل قوم لوط (ع) العذاب أيضاً: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ العنكبوت: 29، وقوم شعيب (ع): ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ الشعراء: 187.
وللمعترضين من قوم رسول الله محمد (ص) قول في تعجّل العذاب كسابقهم ممن اعترض على رسل الله: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ سبأ: 29.
وفي حقيقة الأمر يبدو أنّ الأقوام المعترضة التي تعجلت العذاب من ربها بطلبه من رسله لا تعتقد بالحساب أصلاً، فمن الواضح ليس كل المعترضين على خلفاء الله – حسب ظاهر حالهم، وقبل الامتحان بخليفة الهي جديد – هم من المنكرين والمعترضين، وهم على مستوى الادعاء يدعون الإيمان بالله وبرسله وبالمعاد، أقول: حسب الظاهر وقبل الامتحان، فالذين كفروا بهود (ع) – مثلاً – لم يكن كلهم قد كفر بنوح (ع) الذي أوصى به، بل على مستوى الادعاء يدعون الإيمان به وهم بصدد انتظار هود (ع) كما أخبر، وكان ادعاء إيمانهم به لأنهم لم يكونوا قد امتحنوا به أصلاً، والادعاء سهل كما هو معروف. ولكن عند بعث هود (ع) ولأنهم أصبحوا على محك الامتحان بخليفة الله أنكروه واعترضوا عليه وتعجلوا العذاب منه، فكشف ذلك عن عدم إيمانهم بمن سبقه من حجج الله نوح (ع) ومن تقدمه.
وكذلك الحال في أقوام تلت، فتعجلت العذاب من رسل الله بل أعادت طلبها وكررت، وكانت تفسّر إمهال الله لها رأفة ورحمة منه بتكذيب رسل الله وإلا لأتوهم بما طلبوه منهم، ولما كانت رحمة الرسل من رحمة المرسِل سبحانه كان جوابهم: ﴿يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾، وكم قال سيد رسل الله (ع): (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) بحار الأنوار: ج95 ص167، في حين أنهم مصرّين على قول: ﴿اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؟! يا سبحان الله.
وكم هو جريء هذا الخلق المسكين الذي يطلب من ربه الذي يرسل له رحمته ولكنه يصرّ على طلب صاعقةً من السماء، أو حجارة تنزل على رأسه منها، أو ريحاً صرصراً عاتية، أو طوفاناً وغرقاً، أو قلباً لعالي قريتهم سافلها أو … أو … من آيات العذاب القاهرة التي لا تبقي ولا تذر؟! قال تعالى: ﴿فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ العنكبوت: 40.
واليوم، تصرّ هذه الأمة اليوم لما ابتليت بوصي من آل محمد – وهو اليماني الموعود الذي قال أهل البيت (ع) عن الملتوي عليه بأنه من أهل النار – على طلب آية العذاب منه بل استعجال ذلك الطلب منه، وهم يعلمون جيداً انه طلب لم يصدر من مؤمن بالله قط منذ بعث الله آدم والى يومنا هذا؟! وهل تظن هذه الأمة بأنها أكرم عند الله من قوم هود (ع) الذين كفروا به واكتفوا بادعاء إيمانهم بنوح (ع)، فكذبوه واستهزؤوا به واستعجلوا العذاب منه؟! إذن فلينتظروا مصير قوم هود.
وهل حقاً ما زال البعض يعتقد بأنّ اليماني حاله حال بقية أصحاب الرايات من القادة العسكريين، هذا وهم يقرؤون بأنه يدعو إلى (صاحبكم) وأنّ الملتوي عليه من أهل النار؛ لأنه يدعو إلى الحق والى طريق مستقيم، فهل تأملتم ذلك فعلاً؟! أشك في ذلك؛ لأني أعرف أنّ المتأمل يقف عند قول إمامه الذي لا ينطق عن الهوى. أو تنتظرون حجة على الخلق ممهداً للإمام وداعياً إليه من غير آل محمد، والله تعالى يقول: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ آل عمران: 34. فهلّا تنظرون حالكم المزري وإلى أين يصار بكم، ولكن أبيتم إلا قول ما قاله المعترضون على خلفاء الله في أرضه وصار الكل يستعجل العذاب, والحمد لله رب العالمين.