تقدم الحديث في أمرين اشترك فيهما المعترضون على خلفاء الله في منج الاعتراض، وهما: التكذيب بلا دليل، والسخرية والاستهزاء، وهذه هو الثالث.
الثالث: ((إلقاء التهم بلا وازع من ضمير أو استشعار حسيب)) :
إلقاء التهم الجاهزة الدالة على قلة الورع وانعدام الخلق وفقدان الضمير لدى ملقيها بل فقدان كل ما يمت إلى الإنسانية بصلة، صفة تجمع المعترضين على خلفاء الله في أرضه في منهجهم الذي ينتهجونه للصد عن دعوات الأنبياء والأوصياء. وهي الأخرى نقطة بارزة ووضوحها بمكان يكفي مؤونة الاستدلال وذكر الشواهد لولا الرغبة في زيادة التنبيه، ورجاء الإفاقة قبل فوات الأوان ، فان الذكرى تنفع المؤمنين.
((ساحر، مجنون، كذاب، أفّاك، مفتري، مختلق، متقوّل، شاعر))، بل تصل إلى التشكيك في النسب حتى كما حصل لعيسى u، باعتبار أنه لم يأتِ قومه بشهادة ميلاد أو جنسية أو شجرة عائلة مختومة تثبت النسب واكتفى بمجيئه لهم بآيات الله وبقانونه في حججه من وصية وعلم ورفع راية حاكمية الله منهجاً، لذا فاتهام أمه المقدسة أيسر ما يكون لدى قوم تكبروا على آيات الله ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً @ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً @ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً﴾ مريم : 27 – 29. وإذا كانت آيات الله وبيناته بنظر المعترضين كافية لإثبات طهارة عيسى – وهو الطاهر حقاً – وإثبات حقه، فما بال من جاء الناس اليوم بقانون الله في حججه وفيه وصية نبيكم وعلم وحكمة حججه ورفع راية حاكميته سبحانه وعشرات الروايات التي تذكره باسمه وصفته ومسكنه وكل ما يتعلق بأمره والآيات والأدلة الأخرى، ما بال كل ذلك لا يكفي في نظركهم لإثبات حقه وأنه من آل محمد الأوصياء؟!
نعم، تهم معدة سلفاً من قبل المعترضين تلقى سريعاً بمجرد سماع داعي الله يدعوهم إلى ربهم، وهذا نموذج مما أطلقه المعترضون من تهم على خلفاء الله سعياً لضرب شخصياتهم المقدسة:
فقالوا لنوح u: ﴿… مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ القمر: 9، ولنبي بعده: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ﴾ المؤمنون: 38. ولصالح u: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ الشعراء: 153، وشعيب u: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ الشعراء: 185، ولموسى u: ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً﴾ الإسراء: 101، ﴿قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ﴾ الشعراء: 27، وعيسى u لما جاءهم بالبينات: ﴿... قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ الصف: 6.
وكالعادة كان لرسول الله النصيب الأكبر من تهم المعترضين: ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ الحجر: 6، ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ..﴾ الاحقاف: 8، ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ … أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ﴾ الطور: 30، 34.
بقي تهمة إعانة الغير لخليفة الله بعد أن ينشر دعوته، ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُوراً﴾ الفرقان: 4، يقصدون رسول الله . وربما – والله أعلم – من مصاديقها اليوم الاتهام بالعمالة، فـ (العميل) في نظر المعترضين هو خليفة الله والحال أنهم يعلمون جيداً انه يبعث وحيداً فريداً وتنصره القلة من المستضعفين من قومه دوماً، وأما المال والجاه والأتباع والعلاقات فهي بيد الطغاة والمستكبرين وهم المعترضون دوماً أيضاً، وإلا هل يخفى تحالف أبو سفيان وكبار قريش المعترضين مع اليهود – فضلاً عن غيرهم – للقضاء على دعوة رسول الله ، ولكنه مثل قيل فصدق فيهم: (رمتني بدائها وانسلت)، ولله كان صبرك يا رسول الله وأنت القائل عن معترضي قومك لما تشكو حالك لربك وناصرك: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي) بحار الأنوار: ج19 ص22.
وساعد الله قلبك يا قائم آل محمد وأنت تقاسي في دعوتك اليوم أشد مما قاساه جدك رسول الله من قومه بنص كلام الطاهرين ، وها هو اتهام القوم له بالجنون والسحر والعمالة والافتراء وغيره مما تطول القائمة بذكره من التهم والكذب والظلم والزور، وهو كله أمام مرأى ومسمع الجميع وفي وسائل النشر المتعددة من إعلام مرئي ومسموع ومقروء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الرابع: (( التهديد بالسجن والقتل والرجم والطرد والإخراج )) :
ومما يوحد المعترضين في منهجهم الذي يجابهون به خلفاء الله في أرضه هو التهديد بالتصفية الجسدية بأصنافه المتعددة والسجن والتعذيب والطرد والإخراج، وواضح انه منهج الطغاة والمتكبرين لما تعييهم الحجج والبينات الواضحة التي يأتي بها خلفاء الله، وتجد لها موضعاً لدى الشعوب المقهورة على أمرها في عبوديتها للطغاة المتجبرين، فما هم إلا عبيد عندهم يصنعون بهم ما يشاءون ويسخرونهم حيث يريدون.
إنّ علم وحكمة الرسل والخلق الذي يحملونه والنهج الذي يبثونه في الناس والطهر الذي يشع من صدور تيقنت بالله وتواضعت فزادها الله من علمه فامتلأت، فشع نورها على كل اُذن سمعت أو عين رأت، أو قلب يبصر الحقيقة، ولما كان كل الخلق قد فطروا على طلب ذلك فحتماً سيتأثر الجميع لو قدر لذلك النور بالاستمرار بالبث، ولاهتدى الجميع لا محالة، ولا تبقى إلا نفوس خبثت وبعين النجاسة عجنت واختارت غضب الله وسخطه.
لكن، ماذا سيبقى من مشروع أصحاب تلك النفوس المغضوب عليها، وهل يقبل طاغية لنفسه أن تحكم فرداً أو فردين ممن يتبعه من الملأ وانتهى الأمر ؟! وأين سيكون مصير مشروع الربوبية (أنا ربكم الأعلى) واستعباد الخلق من دون الله (ما أريكم إلا ما أرى) ؟!
على هذا كان التهديد من قبل المعترضين لإسكات هذا الصوت الإلهي والسعي لإطفاء نوره عبر القتل والسجن والسم والصلب أو الإبعاد والإخراج على أقل تقدير، وهذا نموذج من تهديد المعترضين ومنهجهم الواحد في الاعتراض على أنوار الله في أرضه: قالوا للمرسلين من حجج الله وبلسان ونهج واحد: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يس: 18. ولمن أحب أن يرى تفصيل هذه الحقيقة هذا موجز مما قاله المعترضون: ﴿.. قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ الشعراء: 116، وهددوا صالح u وأهله، وأرادوا قتله بغدر هم له أهل: ﴿… قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ النمل: 49، وكان من تهديدهم لإبراهيم u ما كان: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ..﴾ العنكبوت: 24، ﴿.. لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾ مريم: 46، ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ الأنبياء: 68.
والتهديد بالإخراج هو نصيب لوط u، والسبب أنه ومن آمن معه أناس يتطهرون: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ الأعراف: 82، ﴿قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ﴾ الشعراء: 167، ولشعيب u: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ هود: 91.
وقال فرعون (لعنه الله) لنبي الله موسى u: ﴿قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ الشعراء: 29، ولمن آمن به: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ الشعراء: 49.
وللملأ كان دور أيضاً: ﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ الأعراف: 127.
وذات السنة تتكرر اليوم مع قائم آل محمد، فكان إباحة دمه من قبل البعض، والتسقيط وتلفيق التهم لقتل الشخص والشخصية وهدم مساجده وحسينياته هبة القوم إليه، وقتل أنصاره وسجنهم وتشريدهم وتعذيبهم ما ادخروه له، على أنّ ما يفعله القوم مع الحق وأهله وأنصارهم أمر مستمر وفي كل فترة يأتينا الظالمون بجديد، وهو لا يخفى على كل احد حتى وإن أصرّ على عدم السماع أو أغمض عينيه عمداً، والله سائل كل من يسمع أو يرى ظلماً ولا يسعى لدفعه عن مظلوم، أي مظلوم، فكيف إذا كان سيد المظلومين اليوم من آل محمد، ، والله ناصر حججه وأوليائه، ومشيئته كائنة، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(صحيفة الصراط المستقيم/عدد 51/سنة 2 في 12/07/2011 – 10 شعبان 1432هـ ق)