نسمع كثيرين يقولون انقطع الإرسال بعد النبي محمد (ص) فلا يوجد أي شخص ولن يوجد أي شخص يحمل رسالة الله بعد محمد (ص) !! فهل حدث شيء في سنة الله ؟ هل تغير أمر السماء ؟ هل انقطعت الحاجة التي من اجلها كان يرسل الله سبحانه وتعالى رسله للناس في الأرض ؟
وقبل تبيان بطلان هذا القول ينبغي مناقشة سبب إرسال الرسل لأهل الأرض بل وكل الخلق ؟ وينبغي أن نعرف أيضا هل السبب كان ظرفيا بحيث انه كان لما جاء النبي محمد (ص) وبعد أن رجع إلى ربه (ص) انتفى هذا السبب؟ !
أما سبب إرسال خليفة الله أو الرسول فمرتبط بعلة خلق الخلق قال تعالى (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) الذاريات : 56. ، أي ليعرفون كما ورد ذلك في روايات المسلمين فمن طرق السنة نذكر مثلا ما جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية بعد ذكر بعض الأقوال فيها قال (..وقال ابن جريج : إلا ليعرفون …) وأيضا في تفسير القرطبي قال : (…مجاهد : إلا ليعرفوني . الثعلبي : وهذا قول حسن ; لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده …). وأيضا عن طرق الشيعة فنذكر مثلا ما جاء عن أبي عبد الله (ع) قال (( خرج الحسين ابن عليّ (ع) على أصحابه فقال: أيّها الناس إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت وأمي، فما معرفة الله؟ قال (ع) : معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته )) علل الشرائع: 9
وعن الإمام احمد الحسن (ع) لما سأله سائل: ما الهدف من خلق الإنسان؟ قال (ع) : ((بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآل محمد الأئمة والمهديين
خلق الله سبحانه وتعالى آدم (ع) خليفة في أرضه، هذا أمر أقرته جميع الأديان الإلهية، كما أنه سبحانه وتعالى أسجد جميع ملائكته لآدم (ع) ، والسجود علامة الخضوع والتذلل والانصياع للأمر الصادر من المسجود له، ولم يكن الأمر فقط طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى، وإلا لكانت الخصوصيات عبثية وحاشا الله سبحانه وتعالى من العبث، فكون المسجود له آدم خصوصية يجب أن تلحظ بدقة، كما أن أفضلية آدم (ع) على الملائكة وجهة أفضليته (ع) أيضاً مسألة يجب أن تلحظ لمعرفة الهدف من خلق الإنسان.
المسألة الأولى: مسألة خلافة الله في أرضه، وهنا مسألة يجب أن نعرفها وننطلق منها، هي أن المستخلف يجب أن يكون مؤهلاً لأداء الغرض الذي استخلف لأجله، فالسؤال هو: ما هو الغرض من هذه الخلافة ؟
والجواب: إن الغرض هو القيام بمقام الله سبحانه وتعالى في إدارة الأرض بما فيها من عباد الله سبحانه وتعالى من إنس وملائكة وجن، وما فيها من جسمانية وملكوت علوي وسفلي. فإذا كان هذا هو الغرض فما هي المؤهلات؟
ولمعرفة هذه المؤهلات أضرب هذا المثال، فأنت إذا كان لديك مصنع تجيد إدارته من كل حيثية وجهة، فهو يحتاج إلى معرفة كيفية الإدارة والأعطال وإصلاحها، ويحتاج إلى شخصية قادرة على التعامل مع العمال في المصنع، والآن إذا أردت أن تضع في مكانك شخصاً يخلفك في المصنع، فأنت تختار صاحب الكفاءة والشخصية المؤهلة للتعامل مع العمال في المصنع، وإذا كنت صاحب شخصية مثالية فإنك ستختار شخصاً ذا شخصية مثالية أيضاً، أو يقرب من ذلك لكي تكون حالة المصنع في حال إدارتك له وفي حال إدارة خليفتك واحدة.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى عندما يستخلف خليفة عنه في أرضه فإنه يجعل خليفته يتصف بصفاته سبحانه وتعالى، لأنه القادر على كل شيء، فيكون خليفته صورة له ووجهه في خلقه، وأسماءه الحسنى، قال رسول الله ص: (إن الله خلق آدم على صورته) أصول الكافي : ج1 : ص134. وليكون الخليفة كذلك يجب أن يكون فانياً في أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، فيكون أمره أمر الله، وفعله فعل الله، وإرادته إرادة الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث القدسي: (لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالفرائض – أي بالولاية لي – حتى يكون يدي وعيني وسمعي) أي حتى يكون أنا في الخلق.
وكما في الحديث: (إن روح المقرب تصعد إلى الله فيخاطبه الله سبحانه وتعالى فيقول: أنا حي لا أموت وقد جعلتك حياً لا تموت، أنا أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتك تقول للشيء كن فيكون). والآن، نعود إلى الغرض من الخلافة فأقول: إذا كان الخليفة صورة لمن استخلفه، وقائماً بمقامه في أرضه، وإذا كان صاحب الأرض غائباً، أي غائب عن الإدراك والتحصيل وإلا فهو الشاهد الغائب، وإذا كان خليفته هو صورة له، فتكون معرفة الخليفة هي معرفة من استخلفه الممكنة، لأنه صورة له، وهذا هو الغرض الحقيقي من الخلافة، المستبطن للغرض الأول وهو قيام الخليفة بمقام المستخلف، وهو المعرفة والعلم الحقيقي، فبالأنبياء والرسل عُرف الله، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ، أي ليعرفون.
وقال تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم﴾ ، فعلَّمَ آدم خليفة الله الملائكة وعرَّفهم بالأسماء الإلهية، فالملائكة خُلِقوا من أسماء الله سبحانه، وفي الزيارة الجامعة: (السلام على محال معرفة الله) الزيارة الجامعة / مفاتيح الجنان.)) كتاب المتشابهات ج 4 للإمام احمد الحسن (ع) .
فإذا تبين لك ما هو هدف خلق الخلق وانه للمعرفة وعرفت أيضا سبب إرسال الرسل أو استخلاف الله لخليفة في الأرض تبين لك أن الأمر ليس ظرفي وأن حاجة الخلق للرسول (أي خليفة الله في الأرض) هي هي لم تتغير : سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
إلا أن يقول قائل أن الناس بعد إرسال محمد (ص) وصلوا إلى الهدف الذي من اجله خلقهم الله وهذا القول لا يحتاج إلى عناء لتبيان بطلانه. قال سبحانه وتعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) وقوله تعالى (إِنِّي جَاعِلٌ) دليل على الاستمرار وان الأمر ليس خاص بآدم (ع) وهذا واضح إن شاء الله. أيضا في قوله تعالى (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) دليل على استمرار إرسال خليفة الله في الأرض ، وخليفة الله رسول كونه حامل الرسالة الإلهية سواء ظاهر أو مستتر لعدم وجود القابل ، ولولا ذلك لكان للناس عذر وهو الحجة على الله لان حجة الناس على الله هي العذر. فالله أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس عذر أمام الله سبحانه ويقولون ما جاءنا بشير ونذير. فبين الله سبحانه استمرارية الإرسال في هذه الآية لاستمرار العلة والسبب وهي ان لا يكون للناس حجة (عذر) على الله سبحانه.
عن أبي عبد الله (ع) ، أنه سأله رجل فقال: لأي شيء بعث الله الأنبياء والرسل إلى الناس؟ فقال: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ولتكون حجة الله عليهم ، ألا تسمع قول الله عز وجل ، يقول حكاية عن خزنة جهنم واحتجاجهم على أهل النار بالأنبياء والرسل: (أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) » علل الشرائع: 120/ 4. ولا بد أن نلتفت أن الله سبحانه وتعالى جعل الحجة في أشخاص الرسل وإرسالهم ليس فقط في رسالتهم لذلك قال تعالى (رسلا مبشرين ومنذرين….. إلى قوله……… بعد الرسل) وأيضا بين سبحانه وتعالى كما في حديث الصادق (ع) ان عذر الناس (أي حجة الناس) هي عدم إرسال الرسل لهم وليست الرسالات ((…لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولئلا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير ، ولتكون حجة الله عليهم ، ألا تسمع قول الله عز وجل ، يقول حكاية عن خزنة جهنم واحتجاجهم على أهل النار بالأنبياء والرسل: (أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)؟)) وتأمل أيضا ، أخي القارئ ، قوله عليه السلام : ((… واحتجاجهم على أهل النار بالأنبياء والرسل…)) اذا الاحتجاج اي اقامة الحجة القاطعة للعذر بالانبياء والرسل (ع).
ثم تدبر احتجاج الله سبحانه وتعالى ايضا في هذه الآية الكريمة قال تعالى ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
(قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) : أي احتجاج الله بإرسال خليفته ، واما حجتهم الممكنة أي عذرهم الذي ربما يقبل عند الله فهو (أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ) ثم تأكيد الحجة : (فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) ، والتبشير والإنذار (بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) نجدهما أيضا في الآية التي ذكرناها سابقا : (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). فتبين بوضوح تام أن حجة الله على الناس هو الرسول أي خليفة الله في الأرض كونه كما قدمت حامل للرسالة الإلهية للإنسانية وتبين أيضا لماذا يسمى النبي والرسول والإمام : حجة الله (ع) .
فلم يبقى معنى للقول بانقطاع الإرسال بعد النبي محمد (ص) خليفة الله الحقيقي والإنسان الكامل ، بل الهدف هو هو والحاجة هي هي لم تتغير. فما الحكمة من انقطاع الإرسال والحاجة نفسها لم تتغير؟ فالإرسال مستمر بعد الرسول محمد (ص) ليس بنفس الطريقة التي كان بها من قبل لعلة بعث محمد (ص) خليفة الله الحقيقي ، لكنه مستمر.
ولتبيين هذا أكثر أضرب هذا المثل:
إذا كان إنسان لديه مصنع وفيه آلات وعمال فإذا كان هو بنفسه يدير هذا المعمل ولتكون نسبة الإنتاج في المصنع هي مائة بالمائة (100 %) لابد أن يعرفهم ما يراد منهم ، وكل بحسبه ولابد أن يسلك معهم منهج التدرج الإداري فمثلا لو أراد أن يوصل شيئا لعامل في التصنيع فسيأمر المدير التقني بذلك ومن ثم المدير التقني يوصل الأمر إلى المهندس المشرف على التصنيع ثم المهندس يوصل الأمر لرئيس الفريق الذي يعمل ضمنه ذلك العامل وهكذا… ثم بدا لهذا الإنسان أن يغيب عن المصنع فلا بد أن يجعل شخصاً يخلفه في إدارة هذا المصنع فوجد إنساناً آخر يستطيع إدارة هذا المصنع، ولكنه إذا لم يشرف هو بنفسه على هذا الشخص تكون نسبة الإنتاج ثمانين بالمائة (80 %)، فلابد له من الإشراف عليه لتبقى نسبة الإنتاج تامة (مائة بالمائة)، ثم إنه وجد إنساناً آخر أكثر كفاءة من السابق ، ولكنه أيضا يحتاج إلى الإشراف عليه وإلا ستكون النسبة (90 %)، فجعله خليفته في هذا المصنع واشرف عليه وعلى عمله لتبقى النسبة مائة بالمائة (100%)، ثم أخيراً وجد إنساناً مثله وكأنه صورة له يستطيع إدارة المصنع وبدون الإشراف عليه وتكون نسبة الإنتاج مائة بالمائة (100%)، فجعله خليفته على المصنع وأطلق يده يفعل ما يشاء فيه لأنه لا يشاء إلا مشيئة صاحب المصنع.
الآن : إذا كان هذا الخليفة الكامل أيضا سيغيب عن المصنع فهل يا ترى سيترك المصنع دون أن يستخلف مكانه شخصا يدير المصنع ويقوم مقامه ؟ أظن أن الجواب واضح فلابد أن يستمر الاستخلاف لان علة الاستخلاف لم تتغير، بلى تغير شيء وهو منهج الاستخلاف فالآن سيكون الإرسال من الخليفة الكامل والإرسال منه لا من صاحب المصنع مباشرة. وهذا الأمر يعتبر بمثابة ممارسة فعلية لوظيفة الخلافة من قبل الخليفة الحقيقي. و يجب أن ننتبه أن خليفة الخليفة الكامل هو أيضا خليفة صاحب المصنع. فالإرسال بعد محمد (ص) هو من محمد (ص) الخليفة الحقيقي و”المرسلون” هم أوصياء الرسول محمد (ص) خلفاء الله الذين نص عليهم رسول الله في وصيته في الليلة التي كانت فيها وفاته الأئمة الاثنا عشر والمهديون الاثنا عشر.
ومما تمسك به المدافعون عن أطروحة انقطاع الإرسال هو أن محمد (ص) خاتم النبيين وهو ما سنعرض له في الحلقة القادمة ونبين كيف احكم هذا الأمر العظيم الإمام احمد الحسن ع إن شاء الله بالتفصيل.
والحمد لله وحده
(صحيفة الصراط المستقيم ـ العدد 34 ـ الصادر بتاريخ 9 ربيع الثاني 1432هـ الموافق ل 15/03/2011 م)