بالنسبة للمصادر الإسلامية فهي تحدد مكان الذبح بأنه بكة أو مكة. ويرى الدكتور أحمد حجازي أن قول إبراهيم لغلاميه: ( اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما) دليل على أن مكاناً للعبادة كان مُقاماً ومعداً للسجود والناس جميعاً يعرفونه ([1]).
والحق إن بيت اللّـه في مكة كان مشاداً من قبل، فقد ورد في كتاب الكافي:
( علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبي إبراهيم ، عن أبي عبد اللّـه ( عليهما السلام ) قال : إن اللّـه عز وجل لما أصاب آدم وزوجته الحنطة أخرجهما من الجنة وأهبطهما إلى الأرض فأهبط آدم على الصفا وأهبطت حواء على المروة وإنما سمى صفا لأنه شق له من اسم آدم المصطفى وذلك لقول اللّـه عز وجل : (إن اللّـه اصطفى آدم ونوحا ) وسميت المروة مروة لأنه شق لها من اسم المرأة فقال آدم : ما فرق بيني وبينها إلا أنها لا تحل لي ولو كانت تحل لي هبطت معي على الصفا ولكنها حرمت علي من أجل ذلك وفرق بيني وبينها ، فمكث آدم معتزلا حواء فكان يأتيها نهارا فيتحدث عندها على المروة فإذا كان الليل وخاف أن تغلبه نفسه يرجع إلى الصفا فيبيت عليه ولم يكن لآدم أنس غيرها ولذلك سمين النساء من أجل أن حواء كانت أنسا لآدم لا يكلمه اللّـه ولا يرسل إليه رسولا ، ثم إن اللّـه عز وجل من عليه بالتوبة وتلقاه بكلمات فلما تكلم بها تاب اللّـه عليه وبعث إليه جبرئيل u فقال : السلام عليك يا آدم التائب من خطيئته الصابر لبليته إن اللّـه عز وجل أرسلني إليك لأعلمك المناسك التي تطهر بها فأخذ بيده فانطلق به إلى مكان البيت وأنزل اللّـه عليه غمامة فأظلت مكان البيت وكانت الغمامة بحيال البيت المعمور فقال : يا آدم خط برجلك حيث أظلت عليك هذه الغمامة فإنه سيخرج لك بيتا من مهاة يكون قبلتك وقبلة عقبك من بعدك ، ففعل آدم u و أخرج اللّـه له تحت العمامة بيتا من مهاة وأنزل اللّـه الحجر الأسود وكان أشد بياضا من اللبن وأضوء من الشمس وإنما اسود لان المشركين تمسحوا به فمن نجس المشركين اسود الحجر وأمره جبرئيل u أن يستغفر اللّـه من ذنبه عند جميع المشاعر ويخبره أن اللّـه عز وجل قد غفر له ; وأمره أن يحمل حصيات الجمار من المزدلفة فلما بلغ موضع الجمار تعرض له إبليس فقال له : يا آدم أين تريد ؟ فقال له جبرئيل u : لا تكلمه وارمه بسبع حصيات وكبر مع كل حصاة ، ففعل آدم u حتى فرغ من رمي الجمار وأمره أن يقرب القربان وهو الهدي قبل رمي الجمار وأمره أن يحلق رأسه تواضعا للّـه عز وجل ففعل آدم ذلك ثم أمره بزيارة البيت وأن يطوف به سبعا ويسعى بين الصفا والمروة أسبوعا يبدء بالصفا ويختم بالمروة ثم يطوف بعد ذلك أسبوعا بالبيت وهو طواف النساء لا يحل للمحرم أن يباضع حتى يطوف طواف النساء ففعل آدم u فقال له جبرئيل : إن اللّـه عز وجل قد غفر ذنبك وقبل توبتك وأحل لك زوجتك ، فانطلق آدم وغفر له ذنبه وقبلت منه توبته وحلت له زوجته )([2]).
من هذا النص يتضح أن البيت الذي قصده إبراهيم لم يكن سوى البيت الذي ببكة أو مكة، وكان مشيداً حتى على زمن آدمu، وأن ( المريا ) ليست سوى ( المروة ).
ومن الغريب حقاً أن يظن اليهود والمسيحيون أن الأنبياء السابقين على إبراهيم لم تكن لهم قبلة!
يقول محققو نسخة الرهبانية اليسوعية: (يطابق سفر الأخبار الثاني (3/1) بين موريّا وبين الرابية التي سيشاد عليها هيكل أورشليم .. غير أن النص يشير إلى أرض باسم موريّا لا يأتي ذكرها في مكان آخر، ويبقى مكان الذبيحة مجهولاً )؟!
وبالعودة إلى الخلاف بين العبرانيين والسامريين نجد نصاً في العهد الجديد يحسم فيه عيسىu النزاع بالإشارة إلى مكان سجود آخر: ( قالت له المرأة: يا سيد أرى أنك نبي، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل، وأنتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني، إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب، أنتم تسجدون لما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لما نعلم، لأن الخلاص هو من اليهود. ولكن تأتي ساعة، وهي الآن، حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق، لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له، اللّـه روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا )([3]).
عيسى إذن في هذا النص يشير إلى مكان آخر، ولابد أن يكون هذا المكان مشاداً، فلم يحدث أن أشيد مكان بعد عيسى كقبلة للناس، ولا عبرة بما يقوله بعض المسيحيون من أن المراد هو كنائسهم، لأنهم هم بدورهم مختلفون. يقول البابا شنودا الثالث بخصوص اختلافهم في القبلة:
( كنائس البروتستانت لا تتجه إلى الشرق ، مثل كنائسنا، كذلك إذا وقفوا للصلاة، لا يتجهون إلى الشرق، بل في أي اتجاه، حسب موضع كل منهم )([4]).
أقول: كان على البابا شنودا – بدلاً من النص المجرد على الخلاف – أن يتذكر أن عيسىu لم يغير شيئاً من ناموس موسىu:
( 17لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ )([5]).
بل إن حديث عيسى نفسه الذي استشهدنا به يدل بوضوح كافٍ على أنه لم يحدد قبلة مغايرة، بل حياته كلها تشهد أنه كان يتخذ قبلة اليهود ذاتها.
ولا أدري حقاً لماذا لم يصرف البابا شنودا قليلاً من وقته في تأمل ما قاله عيسىu ويبحث بالتالي عن القبلة التي تحدث عنها، بدل الانشغال بالقبلة الشرقية التي يبدو إنها إحدى القبلتين اللاتي أشار عيسى إلى استبدالهما ؟
أما قوله عيسىu: ( ولكن تأتي ساعة وهي الآن) فهو يفيد اقتراب هذه الساعة لا حلولها، كما ورد في متى: ( أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة، وآتياً على سحاب السماء)([6])، وقد مات المخاطبون وفنوا، ولم يروه آتياً على سحاب السماء.
ولو كان عيسى قد غير القبلة أو أشار بشيء بهذا الخصوص لنقلت الأناجيل هذا.
([1]) انظر حجازي: نفسه ص95- 96.
([2]) الكافي : الشيخ الكليني ج 4 – ص 190 – 191.
([3]) يوحنا: 4/19-24.
([4]) كتاب اللاهوت المقارن: فصل مجمل خلافاتنا مع البروتستانت.
([5]) متى:5.
([6]) متى: 26-64.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(صحيفة الصراط المستقيم/عدد 26/سنة 2 في 18/01/2011 – 13صفر1432هـ ق)