زاوية الأبحاثزاوية العقائد الدينيةعقائد أهل الكتاب

المسيحية تبشر بالملكوت القادم -1

المسيحية تبشر بالملكوت القادم لم يأتِ عيسىu لينقض أو ينسخ الشريعة التي سبق أن جاء بها موسى والأنبياء من قبله، فهو يقول في هذا الصدد: ( لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل )([1]).

وحتى على مستوى التصور لله تعالى كان عيسى يردد ما جاء في العهد القديم دون زيادة أو نقصان: ( فجاء واحد من الكتبة وسمعهم يتحاورون فلما رأى أنه أجابهم حسناً سأله أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع إن أول كل الوصايا هي اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد )([2]). وهذا هو نفسه الذي ورد في سفر التثنية: ( اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد )([3]).

الحق إن قراءة الأناجيل تضع القارئ أمام موضوعات أخرى غير التي يتداولها لاهوتيو المسيحية أو فقهاؤها، بل إن هذه الموضوعات التي تشغل بال فقهاء المسيحية تبدو غريبة تماماً عن الواقع الإنجيلي.

نعم يمكن للقارئ أن يلمح بعض الخيوط الواهية للغاية تربط بين الواقع الإنجيلي والأدبيات المسيحية، ولكن عليه أن يلاحظ أن هذه الأدبيات التي تبرر عالمها الوهمي بدعوى أن ثمة عمقاً في النصوص الإنجيلية لا يسبر غوره غير عتاة المتفلسفة المسددين بالروح القدس – على حد زعمهم – سرعان ما تتبدد، لتظهر في النهاية بوصفها سوء قراءة للنصوص أنتجتها عقول تشبعت بثقافات أجنبية عن روح نفس النصوص([4]).

ما أن يجعل القارئ من النص الإنجيلي نفسه قائداً يوجه حركة وعيه حتى تبدو المنظومات الفكرية التي شيدتها أقلام الفقهاء المسيحيين أشبه ما يكون بطفيليات العقل التي لا تجد مكاناً لها إلا عبر تخريب نظام المعرفة.

نعم يمكن للقارئ أن يهتدي بسهولة بالغة لطبيعة المسيحية الإنجيلية، ما أن ينبذ الوصايا التضليلية التي يصر عليها فقهاء المسيحية، والمتمثلة بقراءة الأناجيل على الضوء الكابي للعقائد المقررة سلفاً، حيث تستحيل القراءة بحثاً عن نتيجة تم تقريرها سلفاً وبصورة غامضة من قبل المؤسسة الكهنوتية. وبقدر تعلق الأمر بقراءتي كانت ملاحظة تكرر ذاتها أمامي دائماً متمثلة بتبشير عيسىu بالملكوت القادم([5]).

هذا الموضوع الذي يمكنني أن أقول بثقة بالغة أن عين القارئ لا يمكن أن تخطئه يشكل حتماً جوهر الدعوة التي باشرها عيسىu، ولكن حتى على مستوى هذا الموضوع سيلاحظ القارئ أن الأدبيات المسيحية قد عملت بدهاء على تعكير صفوه ووضوحه لمصلحة العقيدة المسبقة.

فلم يعد هذا الموضوع – الذي يُعد واحداً من أهم الخيوط التي تربط المسيحية بحركة الأنبياء السابقة لها – أقول لم يعد تعبيراً عن تخطيط إلهي لمسيرة الواقع البشري على الأرض، بعد أن رحّلته الأدبيات المسيحية إلى عالم آخر لا أرضي من أجل أن تستقيم العقيدة المسيحية، وإن بصورة غامضة شديدة التعقيد.

إذن لكي نفهم المسيحية جيداً، لابد أن نعيد الحصان إلى مكانه الطبيعي أمام العربة، لابد أن يكون النص الإنجيلي هو القائد لا المقود.

لنشرع إذن بالبداية الصحيحة، ونترك للملاحظات التي يخطها النص الإنجيلي على صفحات وعينا مهمة الأخذ بأيدينا إلى الهدف. 

لنلاحظ إذن هذا التركيز على موضوع الملكوت القادم، فمنذ أن باشر عيسى مهمته بعد استشهاد يوحنا المعمدان (يحيى )([6]) أطلق الشعار الذي سيشكل محور حركته: ( من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات )([7]).

( منذ ذلك الزمان ) أي بعد أن أُسلم يوحنا المعمدان لطاغية عصره هيرودس. ولو قرأنا ما في متى لوجدنا يوحنا يردد نفس الكلمات التي كررها عيسى فيما بعد:

( و في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية قائلا توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات )([8]). وقريب مما ذكره متى قال مرقس: (14 وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله . 15 ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله . فتوبوا وآمنوا بالإنجيل) ([9]).

قبل أن نخوض في بيان معنى الملكوت القادم، لنتعرف أولاً على معنى الملكوت على الإجمال، ثم نحاول التعرف بعد ذلك على الرسالة التي أراد عيسىu أن يكرس مفهومها في أذهان مستمعيه.

الملكوت من الكلمات ذات الدلالات المتعددة، ولكنها تُستخدم على الإجمال لتدل على المُلك أو الوجود الذي يمكن أن يتصرف في غيره بصورة ما. فالسماء الأولى مثلاً متصرفة في السماء الجسمانية فهي بالتالي ملكوت بالنسبة لها، والسماء الثانية ملكوت بالنسبة للسماء الأولى لأنها متصرفة فيها، والثالثة بالنسبة للثانية، وهكذا دواليك([10]).

ولكي تتكون لدينا فكرة أوضح أنقل بعض ما كتبه السيد أحمد الحسنu وصي ورسول الإمام المهديu، يقولu:

( اعلموا أيها الأحبة من المؤمنين والمؤمنات إن المخلوق الأول هو العقل وهو العالم الأول الروحاني وهو عالم كلي ، الموجودات فيه مستغرقة بعضها في بعض ولا تنافي بينها . وأهله على درجات أعلاها المس بعالم اللاهوت سبحانه وهي درجه خاصة بمحمد وعليu . فمحمد (دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (النجم 8-9) . وعليu نفسه قال تعالى (وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُم ) (آل عمران 61). وعلي ممسوس بذات الله كما ورد عنه ، ودونهما درجات ، فهما محيطان ويعلمان بكل من دونهما ، ومن دونهما يعلم منهما بقدر درجته ولا يعرفهما أحد بتمام معرفتهما غير خالقهما ، كما لا يعرف الله سبحانه أحد غيرهما بتمام معرفته الممكنة للإنسان . ورد عن صاحب المقام المحمود ما معناه : ( يا علي ما  عرف الله إلا أنا وأنت ، وما عرفني إلا الله وأنت ، وما عرفك إلا الله وأنا ). أما العالم الثاني فهو عالم الملكوت، وهو عالم مثالي صوري ، وهو عالم الأنفس شبيه بما يراه النائم . وذلك أن النائم  غفل عن وجوده المادي فالتفت إلى وجوده الملكوتي ، ولك أن تقول المثالي أو النفسي .

أما العالم الثالث فهو العالم المادي وهو عالم شبيه بالعدم ليس له حظ من الوجود ، إلا قابليته للوجود ، وهو آخر درجات التـنـزل )([11]).

فالعوالم ثلاثة– كما كتب السيد أحمد الحسنu في موضع آخر- هي:-

أ – عالم الملك :

أو هذا العالم الجسماني الذي نعيش فيه ويتكون من المادة -الشبيهة بالعدم والتي ليس لها حظ من الوجود إلا قابليتها للوجود- ومن الصورة المظهرة لها والمادة متقومة بالصورة.

ب – عالم الملكوت :

وهو عالم مثالي مجرد عن المادة شبيه بما يراه النائم ، وهو أشرف من هذا العالم الجسماني ، بل ومسيطر عليه ، ويتصرف فيه . ولكل جسم في عالم الملك صورة في عالم الملكوت وهي حقيقته .

وصورة الإنسان في عالم الملكوت هي نفسه أو الناطقة المغروسة في الجنان وهي المدبرة للجسم في هذا العالم المادي ، وهذه النفس أو الناطقة المغروسة في الجنان هي : ( ظل العقل).

جـ – العالم العقلي:

وهو العالم الثالث أشرف من ( عالم الملكوت ) . وهو عالم كلي ، الموجودات فيه مستغرقة بعضها في بعض ولا تنافي بينها كما هو الحال في عالمي الملكوت والملك ، وغاية الإنسان هي الوصول إلى هذا العالم والغرض من هذا الوصول هو معرفة الله سبحانه وتعالى على ما قدمت من أنها ليست معرفة كنهه وحقيقته سبحانه)([12]).

إذن الملكوت يعتبر المقابل بالنسبة للعالم الجسماني الذي نعيش فيه، ويشمل عالم الآخرة، وقد تحدث عيسىu عن هذا العالم في نصوص كثيرة متناثرة في الأناجيل الأربعة، منها على سبيل المثال:

(1ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. 2ففتح فاه وعلمهم قائلا. 3طوبى للمساكين بالروح. لأن لهم ملكوت السماوات. 4طوبى للحزانى. لأنهم يتعزون. 5طوبى للودعاء. لأنهم يرثون الأرض. 6طوبى للجياع والعطاش إلى البر. لأنهم يشبعون. 7طوبى للرحماء. لأنهم يرحمون. 8طوبى للأنقياء القلب. لأنهم يعاينون الله. 9طوبى لصانعي السلام. لأنهم أبناء الله يدعون. 10طوبى للمطرودين من أجل البر. لأن لهم ملكوت السماوات)([13]).

لابد هنا من التنويه على أن هذا النص قد تضمن أيضاً إشارة واضحة إلى الملكوت بالمعنى الثاني، فضلاً عن المعنى الأول المتعلق بالآخرة، وانفتاح العوالم للروح، ومنه يُعلم مقدار التركيز الكبير على المعنى الثاني دون الأول.

والحق إن المعنى الأول الذي يعني الفوز في الآخرة، وكذلك الارتقاء بالمعرفة الروحية الحقيقية لم تخلو منه رسالة من رسالات السماء.

أما المعنى الآخر للملكوت الذي تكلم عنه عيسىu بتركيز واضح فيقصد منه مملكة الله أو دولة العدل الإلهي التي تقوم في آخر الزمان، وفيها يحكم الصالحون، ويرثون الأرض وتمتلئ بهم عدلاً وقسطاً، كما ملئها الظالمون ظلماً وجوراً. وكان هذا المعنى – كما سلف القول – هو الأكثر جرياناً على لسان عيسىu، ومن أقواله في هذا الصدد:

(11ثم تركه إبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه. 12ولما سمع يسوع أن يوحنا أسلم انصرف إلى الجليل. 13وترك الناصرة وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون ونفتاليم . 14لكي يتم ما قيل بإشعياء النبي القائل. 15أرض زبولون وأرض نفتاليم طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. 16الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورا عظيما. والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور. 17من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات)([14]).

(وكان يسوع يطوف كل الجليل، يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت…)([15]).

( ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله)([16]).

( 5 هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً : إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامرين لا تدخلوا 6 بل اذهبوا بالحريّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة 7 وفيما انتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات )([17])

(1ودعا تلاميذه الإثني عشر وأعطاهم قوة وسلطاناً على جميع الشياطين وشفاء أمراض 2وأرسلهم ليكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى )([18])

بل إن المسيح ذكر أن التبشير بمملكة الله هو الهدف من إرساله إلى بني اسرائيل: ( فقال لهم ينبغي لي أن أبشر المدن الأخر أيضاً بملكوت الله، فإني لهذا قد أرسلت)([19]).

قول عيسى: اقترب ملكوت السماوات، يمثل إشارة إلى دولة العدل الإلهي، التي يحكم فيها الصالحون كما سبق القول. والحق إنه لا معنى للقول إن الملكوت اقترب غير هذا المعنى، فعالم الملكوت عالم مستقل ومغاير لعالم المادة، وحقيقته تختلف عن حقيقة هذا العالم. فالمقصود إذن هو اقتراب زمن المنقذ أو المخلص، أي اقتراب أهل الملكوت، وهم الشيوخ الأربعة والعشرون كما سبق القول. للبحث بقية ستأتي إن شاء الله.


([1])  متى: 5- 17.

([2])  مرقس: 12/ 28- 29.

([3])  – تثنية: 6- 4.

([4])  هل هي مصادفة أن بطل فكرة التثليث من مواليد مدينة الإسكندرية التي تغذت طويلاً بميتافيزيقيا أفلوطين؟

([5])  ثمة موضوعات أخرى من قبيل الصراع الشرس مع علماء اليهود، وإنذار الأمة اليهودية، وكذلك تحرير الوعي الديني للجمهور من ربقة الفهم المادي الحرفي للشريعة، وهذه الموضوعات كما يعرف من أطلع على العهد القديم تمثل استمرارية لجهود أنبياء بني إسرائيل المتأخرين على نحو الخصوص. بيد أن ما يميز المسيحية حقاً فضلاً عن تبشيرها بالملكوت، هو تلك المقدمات المهمة التي ترشحت عنها فيما يتعلق بمسألة تجلي الإلوهية في الخلق. فعلى الرغم من كل التحريف الذي لحق بالمسألة إلا أنها أنتجت مقدمات قوية كما سلف القول.

([6])   الفارق العمري بين عيسى ويحيى(ع) أشهر قليلة، ومع ذلك كان على عيسى كما هو واضح أن ينتظر صامتاً ريثما يُكمل يحيى الرسالة المكلف بها، وهي رسالة شبيهة إلى حد التطابق برسالة عيسى(ع) من حيث محورية التبشير بالملكوت القادم وتحذير الأمة اليهودية ومواجهة العلماء الذين حرفوا الشريعة. إن انتظار عيسى(ع) يدل بلا شك على أنه نبي كما هو حال يحيى، ورسالته مهتمة جداً باستثمار البناء الذي أنجزه يحيى. ولعل بعض تلامذة عيسى كانوا من تلامذة يحيى، بل إن تلامذة يحيى كانوا كما هو واضح من اقرب الناس إلى دعوة عيسى(ع).

([7])   متى4: 17.

([8])  متى:3/ 1- 2.

([9])  مرقس:1.

 ([10]) من كلام للسيد احمد الحسن(ع) ويوجد في كتاب: حجة الوصي وأوهام المدعي ص28 وما بعدها كلام شبيه به.

([11])   العجل: ج1 ص26- 27.

([12])   شيء من تفسير سورة الفاتحة: ص37 وما بعدها.

([13])   متى:5.

([14])   متى:4.

([15])  متى:4- 23.

([16])  مرقص: 14-1.

([17])  متّى:1.

([18])  لوقا:9.

([19])  لوقا:43-4.

 (صحيفة الصراط المستقيم/عدد 19/سنة 2 في 30/11/2010 – 24 ذو الحجة1431هـ ق)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى