انتهينا في الحلقتين السابقتين إلى أن منصب الخلافة أو الإمامة جعل أو تنصيب وتعيين من اللّـه تعالى، فآدم (ع) مجعول من اللّـه تعالى خليفة في الأرض. والذي يدل على أن المراد هو الإمامة وليس الاستخلاف العام للبشر الذي نطقت به آيات أخرى، هو أن الخليفة في الآية المباركة زُود بعلم لا تملكه حتى الملائكة، قال تعالى: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }. ومعلوم أن بني آدم ليسوا جميعهم يملكون هذا العلم، وكيف وفيهم من هو كالأنعام بل أضل سبيلاً، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }. كما أن الأمر بالسجود للخليفة، وهو سجود طاعة لا سجود عبادة كما هو واضح، يدل على أن طاعته مفترضة، حتى بالنسبة للملائكة، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }.
ويدل عليه كذلك إن الملائكة حين قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) بكّتهم اللّـه عز وجل بقوله: (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، ومعلوم أن بني آدم يفسدون ويسفكون الدماء، بخلاف الإمام أو الخليفة، فلو كان كل البشر هم المقصودون لم يكن موجِب لتبكيت الملائكة.
إن التعبير القرآني الذي جاء بصيغة اسم الفاعل: ( جَاعِلٌ )، الذي وقع خبراً لـ ( إن ) يدل على أن الخليفة موجود في كل زمان فلا يخلو منه زمان، ذلك أن صيغة الفاعل ( جَاعِلٌ ) بمنزلة الفعل المضارع الذي يفيد الدوام والإستمرار، وهذا الجعل يناظر ما ورد في القرآن الكريم من قبيل قوله تعالى : ( جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِـلَـلاً ) و( وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا ) ونحوهما، وهي تفيد معنى السنة الإلهية الثابتة.
والحق إن دوام الخلافة واستمرار وجود الخليفة وحده يجعل اعتراض الملائكة غير ذي موضوع. إذ لو افترضنا عدم وجود الخليفة أو الإمام في زمن معين فلن يكون المعنى من الخليفة هو الإمام وإنما مطلق الناس، وهؤلاء ثبت أنهم يفسدون فلماذا تم تبكيت الملائكة إذن؟ إن تبكيت الملائكة يكون له وجه فيما لو كان المراد وجود من لا يفسد في الأرض وهو الإمام.
وقد يقال هنا أن الخلافة جعلت لآدم لكونه نبياً، وهي بالتالي لا تشمل غير النبي، فنقول إن هذا الفهم يخالف ما ثبت من أن الخلافة مستمرة في الزمان، بينما النبوة من اللّـه منقطعة، ومعلوم أن النبوة من اللّـه تعالى تستلزم وسيطاً بين اللّـه والنبي يقوم بنقل الوحي والعلم، وهو المَلَك، وهذا لا يتم لأن الملائكة كلهم شملهم الامتحان، وكلهم لم يعرف الأسماء التي كانت معرفتها علة الخلافة، وعلة سجودهم لآدم، قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ }، فالسجود شملهم كلهم أجمعون.
إن من يذهب إلى القول بأن المقصود من الخليفة هو مطلق الإنسان قد يبني على أساس ما ورد من آيات كريمة من قبيل قوله تعالى: { وعد اللّـه الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }.
والآية كما هو واضح بصدد بيان خلافة المؤمنين للكافرين في ديارهم، وتمكينهم من دينهم بعد الخوف، والاستخلاف هنا إذن ليس هو خلافة عن اللّـه تعالى.
وقوله تعالى: { قال موسى لقومه استعينوا باللّـه واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون }.
وهو واضح كذلك في خلافة المؤمنين للأرض، أي بسط نفوذهم فيها بعد إهلاك العدو، فهو خلافة المؤمنين للكافرين في ديارهم، أيضاً. فموسى (ع) يبشر المؤمنين إنهم إذا صبروا يفعل بهم اللّـه ذلك.
وقوله تعالى: { وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين }.
والمراد من الاستخلاف هنا هو خلافة قوم لقوم، لا خلافة اللّـه تعالى.
وقوله تعالى: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون }.
وهو مثيل سابقاته. فالمؤمنين يخلفون الظالمين في ديارهم، من بعدهم.
وقوله تعالى: { آمنوا باللّـه ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير }.
هذه الآية بصدد الحديث عن الأموال التي جعلهم اللّـه مستخلفين عليها.
وقوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }.
الآية تحذرهم من أنهم إذا ما تولوا يستخلف اللّـه غيرهم في أرضهم وديارهم، ولا دلالة فيها على خلافة اللّـه في أرضه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
فهم خلائف الأرض، أي يرثونها من غيرهم، وليسوا خلفاء لله فيها.
وقوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ }.
هم خلائف من قد أغرقهم اللّـه في الطوفان، فورثوا أرضهم وديارهم.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَاراً}.
المراد من الاستخلاف في هذه الآية هو جعل البشر خلفاء في الأرض لعمارتها، وهو ليس الاستخلاف الخاص الذي يتطلب علماً مخصوصاً.
إن العلم المخصوص الذي أُعطي للخليفة يدل على أنه ليس كل النوع البشري، وإنما هو نمط خاص منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(صحيفة الصراط المستقيم/عدد 8/سنة 2 في 14/09/2010 – 5 شوال1431هـ ق)