بسم الله الرحمن الرحيم
يعد بديهيا القول إن إثارة السؤال نصف المعرفة ، ذلك لأن إثارة السؤال تشكل دافعا للبحث والسير في سبيل المعرفة لبلوغ الغاية التي من أجلها شرعت المعرفة ،
والذي شرع المعرفة هو من خلق الذين كلفهم بها ، بمعنى أن غاية الخلق معرفة من شرعها ، والمعرفة سبب للوصل لتلك الغاية ، والحضارة المادية اليوم هي صاحبة السلطة وهي الممسكة في زمام تدبير حياة البشرية ، وهذا يعني أنها تستند إلى أسس ينبغي على الباحث النظر فيها وقراءتها قراءة ناجعة ليتحصل على نتيجة مفادها إما ؛ أن هذه الحضارة هي بالفعل قادرة على قيادة سفينة الحياة وإيصالها إلى شاطئ النجاة وهو المعرفة الحق ، أو أن هذه الحضارة بما تستند إليه من أسس ستغرق سفينة الحياة في عمق بحر الجهل والهلكة وتقضي على كل تفاصيلها ومفرداتها ، والوصول إلى واحدة من تلك النتيجتين يتطلب منا قراءة واعية علمية لأسس تلك الحضارة .
لاشك في أن كل حضارة لابد أن تتأسس على خطاب تشريعي له القدرة على التعاطي مع الواقع الحياتي المكلف بتكييفه من جهة ومن جهة أخرى يشكل سببا في بلوغ الغاية التي من أجلها وجد هذا الخطاب ، وعلى ذلك الخطاب أن يبرهن على صدقه وشفافيته في الجهتين ـ كما يقال ـ والصدق يعني أن الخطاب يصف الواقع كما هو لا كما يريده ويتمناه ، ويبين له السبل التي من خلالها يمكنه بلوغ درجات الارتقاء والنمو بلوغا إلى من شرع هذا الخطاب لأنه هو غاية المعرفة ، وبالمقابل السبل التي تجعله ينحدر في دركات التسافل والانحطاط ، كي يكون الواقع على بصيرة من أمره وهو يتعاطى مع هذا الخطاب إن كان بسلبية أو بإيجابية ، وهذه الحالة مفتقدة تماما في الخطاب التشريعي للحضارة المادية على مستوى الإجمال والتفصيل ، والدليل على ذلك واضح وبين ، ويكفي أن ينظر الباحث في دساتير الدول العالمية الكبرى التي هي اليوم الممثل للحضارة المادية وليتأمل أي لون هو خطابها التشريعي ، فسيلحظ إجمالا إنه خطاب نهاياته مفتوحة أي لا غاية لها سوى ادعاء قدرتها على تنظيم حركة الناس على الواقع وهذه ليست غاية وإنما هدف افتراضي قد يتحقق ، وقد لا يتحقق ، وهو في غالب الأحيان يعاني من سياسة التهميش لأن تحقيقه يصطدم بمصالح من شرعوه ومنطلقاته غائمة ، ذاك أن المشرع يبدأ فيه خطابيا ، لينتهي مؤدلجا بآيديولوجية يحرص على تمييع نهايتها وجعل تلك النهايات مفتوحة غاية ما يستطيع وما يمكنه قدح فكره وفيض مداده ، وبالنتيجة يكون تعاطي الواقع مع ذلك الخطاب تعاطيا انتقائيا تماما ـ بمعنى الكلمة ـ ولا يكون للخطاب التشريعي حضور ، ولا ينكشف وجهه الغائم إلا عندما تحصل تقاطعات مصلحية بين القيادات العاملة على وفق ذلك الخطاب ، ليخرج كل طرف من تلك القيادات بتفسير مختلف لتفسير الطرف الآخر ، والعقل يقول كان لابد عند وقوع ذلك الاختلاف التحاكم عند من شرع ذلك الخطاب بوصفه القادر على إحكام متشابهه الذي أدى إلى خلق التوتر على الواقع ، كي يحكم بين المتخاصمين ليستبين أن الخطاب التشريعي يملك زمام تكييف الواقع تكييفا لا مجال فيه للنزاع الذي يمكن أن يؤدي إلى احتقان الواقع وتمريضه ، ومن ثم تسممه أو موته ، وهذا ما نراه اليوم شاخصا ، فرائدة هذه الحضارة وهي أمريكا بشرت العالم بنهاية التاريخ وهلاك البشرية ، وكان المفترض أن تكون البشرى بخلود العالم ونجاته من الهلاك .
إذن فالخطاب التشريعي لهذه الحضارة هو بصريح الوصف خطاب مبني على الكذب والخداع والتزوير ، فالركن الأول ؛ كذبه بوصفه خطابا مختلقا ليس له غاية واضحة فالبشرية لا ولن يكون لها القدرة على أن تسطر خطابا تشريعيا قادراً على حفظ الإنسان فردا ومجتمعات فضلا على أن يكون ذلك الخطاب قادرا على تنمية الحياة وبيان سبل الارتقاء فيها وصولا إلى ضفاف الخلود ، ذاك أن الخلق لم يخلقه خالقه للهلاك ، ولو كانت الغاية من الخلق الهلاك لكان البدء بعملية الخلق لا حكمة فيها ، فما الحكمة من الإيجاد من العدم للعودة إلى العدم ، لا حكمة في ذلك مطلقا ، وحاشا الخالق الحكيم أن يخلق الخلق ليهلكهم ، بل هو تفضل عليهم بالوجود محبا لهم ، وبارئا لهم من ظلمة العدمية إلى فضاء النور والحياة الأبدية ، إذن مسألة الهلاك ينبغي أن تكون غير واردة في كل خطاب تشريعي ، بينما نجد أن الخطابات التشريعية الموضوعة بشريا من ألفها إلى يائها هي تشي بالهلاك والفناء والموت الذي لا حياة بعده ، وتظهر بوادر الإهلاك عندما يبدأ الخطاب التشريعي في النزول إلى الواقع ، حيث تبدأ النزاعات كلامية ما تلبث أن تكون تصفوية على مستوى الأفراد حتى تصل على مستوى الجماعات ، فإذن ما زعمه هذا الخطاب المحشو بالأماني الفارغة من الحفاظ على الإنسان فرداً ومجتمعا هو زعم كاذب ، مع ملاحظة أنني هنا أتحدث على مستوى الإجمال لا التفصيل ، أما التفصيل فمصائبه تبدأ ولا تنتهي .
والركن الثاني ؛ خداع هذا الخطاب يكمن في التوزيع المؤسساتي للمجتمع والعمل على إضعاف السلطة المركزية بدعوى أن مركزية السلطة هو مدعاة لخلق حكاما دكتاتوريين متسلطين يتصرفون بالشعوب على وفق أهوائهم ومن دون ضابط قانوني ، مع مركزية السلطة بغض النظر عن حال الحاكم هو آلية لابد من توفرها لأن قانون الحياة هكذا يقول ؛ لابد من وجود ميزان توزن به الأشياء وتفصل عنده النزاعات ، أما بتمييع مركزية السلطة بدعوى تعدد المؤسسات هو كاشف عن مفارقة ومغالطة ، المفارقة هي أن الإنسان على وفق هذا الخطاب التشريعي يعمل على عكس نظامه التكويني ‘ بمعنى أن كل فرد من الناس محكوم بمركز ذاتي اسمه القلب ، أو بحسب ما يصطلحون عليه بـ(العقل) حيث إن الأفكار والمرادات تحتكم وتحكم عنده ، ومنه تخرج التوجيهات ، وتعمل كل المؤسسات البدنية على وفق توجيهاته على الرغم من تعددها ؛ القدمان واليدان والعينان واللسان ، وغيرها من المؤسسات الصغيرة ذات العلاقة بتلك المؤسسات البدنية الأم ، ولذلك أولى المشاكل التي يعانيها الواقع الفردي للإنسان من هذا الخطاب التشريعي الوضعي هي مشاكل ذاتية متعلقة بتناقض الواقع الداخلي التكويني مع الواقع الخارجي الذي يريد الخطاب التشريعي الوضعي تكييفه ، ومن ثم تبدأ جردة التناقضات ولا تنتهي ، وتلك التناقضات دليل على قاطع صبغة الخطاب التشريعي المخادعة التي ظن الناس وهم يقرؤونها مدونة كأنها قصيدة شعر حالمة ، حتى إذا ما نزلت إلى الواقع صارت سياط جلاد مؤلمة .
أما الركن الثالث من أركان هذا الخطاب التشريعي الوضعي هو ركن التزوير ، بمعنى أن هذا الخطاب الموضوع يتجاوز حقائق الواقع إلى تصورات هو يتخيلها ، ويعمل على إقناع أفراد الواقع بها ، وقناعتهم بها على مستوى الكتابة ليست دليلا على قبولهم إياها على مستوى الفعل والحركة ، ذاك أنهم ما إن يبدأ العمل بذلك التشريع الموضوع حتى ترتفع أكف الاعتراض عليه ، وكان ينبغي أن لا يكون هناك أي اعتراض بعدما قبله الجميع ، وأبدوا الموافقة عليه ، مع ملاحظة أن إقراره لا يترك مجالا للاعتراض حتى من أولئك الذين تركوا لهم ـ كما يقال ـ (خط رجعة) فيما لو حصلت مشاكل فسيقول ؛ أنا أشرت إليها ولكنني وافقت على الخطاب نزولا عند رغبة الشعب وإجماعه ، وهذه بعض الأخلاق الـ(ثعلبية) للساسة الذين تعودوا على سياسة (اضرب واهرب) ، فهم يغنمون إذا الناس غنمت ويعملون على أن يظفروا بأكبر قدر من الغنيمة ، ويفرون إذا ما احتدمت المواجهة وتأجج الصراع ، وفي غالب الأحيان الساسة والسدنة يزجون في ساحات الصراع أولئك الذين باعوا (دينهم بدنيا غيرهم) ليهلك دين أولئك الذين يسميهم الدكتور شريعتي في أحد كتبه المفيدة بالـ(مستحمرين) ، بمعنى أن الساسة ورجال الدين أيضا يشتركون معهم في حلبات الصراع دورهم هم (الخنس) خلف جوقة من المستحمرين ليكون أولئك هم من يحمل أوزار سادتهم وأوزار استحمارهم ، وبعد أن تنجلي الغبرة يخرج الساسة والسدنة لحصاد ثمار تلك الحلبات ، ويظهر على خطاباتهم لهجة (الحملان) الوديعة ، وتذوب شفاههم من الأسف ، وتعتصر (اسفنجة) عيونهم شلال الدموع المنهمر أسفا وندما على ما حصل من أولئك المستحمرين على الرغم من أن الساسة والسدنة حاولوا بطرق كثيرة تجاوز أن يصل الحال إلى الحد الذي وصل إليه ، ويحاول أولئك الساسة الذئاب والسدنة الخونة أن يمتصوا غضب الواقع بتنزيه الخطاب التشريعي الذي زوّر حقائق الواقع ، وخلق حالات الصراع والاقتتال ، ولعل ما يحصل اليوم في العراق هو صورة واضحة لا تحتاج إلى تعليق تثبت هذا الذي نقوله عن الخطاب التشريعي الموضوع والذي يصطلحون عليه بـ(الدستور) حيث إلى الآن لا يعرف من الذي وضعه ، وما الغاية التي يريد تكييف واقع الحياة بحسبها ، ويقاتل الساسة والسدنة على بقائه لأنه شماعة جرائمهم ، وشجرة غباء الشعب التي تثمر لهم سلطة وأموالا وجاها ما كان يمر في خواطرهم وهم بأيدي المنافي تقلبهم كما تشاء ، وتنتهك منهم ما تشاء .
بقي أن نلتفت عزيزي القارئ إلى أن الخطاب التشريعي للحضارة المادية لا يكترث بمحلية الواقع ، بل هو سبيل لعالمية القوى المسيطرة ولسلطتها ولذلك يحاول جاهدا أن يحفظ لها مصالحها المنظورة وغير المنظورة ، فضلا على أنه يعمل على تحويل دماء البشر في تلك الجغرافيات المحلية إلى صكوك دفع مؤجل تستوفيه تلك القوى متى أرادت ، أو صكوك أمان لما قد يأتي من كوارث تلك الحضارة ، كما حصل في الكارثة المالية التي خسفت بجيب سيدة العالم ، فطال ذلك الخسف حتى أولئك الذين ما وصلهم غبار ماكنات الحرث الأمريكية ، ليصلهم بلاؤها ومصيبتها فيزدادوا جوعا إلى جوعهم ، ويتضاعف عليهم الموت ضعفين ، ومازال العالم إلى اليوم يشكر هذه السيدة المتعالية على أنها تصدر مصائبها إلى الناس بسخاء منقطع النظير ، لتقبع هي في زاوية المتعة تحتسي خمرها لاهية عابثة ، وحال كهذا كيف لا يثمر هلاكا ، وهلاكا أسرع مما يتصور المتفائلون بحلوله على أرض دحاها الله سبحانه لعباده كي يعمروها بمعرفته ، وإذا بهم يخربوها بجهلهم وطغيانهم وتمردهم وعصيانهم .
ولنا في مقال آخر إذا وفق الله سبحانه وقفة مع جور هذه الحضارة التي بدأ موقدها يخبو ونارها تأفل ، ولعل في ذلك بشارة للجياع الذين يقتاتون على جوعهم لتمتلئ بطون الذئاب ، أن ناقوس رحيل هذه الحضارة الظالمة دق ، ونهاية تاريخها حلت ، وحالها سيكون كحال القرية التي أغرقها الله سبحانه بسيل العرم بفعل فأرة خرقت السد ، قال تعالى{َقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ}(سبأ/15- 17)