قال تعالى : (( ألم 0 ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب )) [البقرة/3] ، (( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب )) [يس/11] ، (( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب )) [الحديد/25 ] (( مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيب )) [ق/33] (( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ )) [الأنبياء/49] .
هذه الآيات الكريمة تبين بوضوح أن الإيمان الحقيقي الذي يريده الله عز وجل والإيمان الممدوح عنده تعالى هو الإيمان بالغيب ، أي الإيمان الذي يُقدم عليه الإنسان بإرادة حرة واختيار واع ، دونما إكراه أو إلجاء ، كما لو آمن الإنسان من خلال معجزة مادية قاهرة .
فالمعجزة كلما كانت مُحكمة لا تقبل تأويلاً أو لبساً كلما كان الإيمان أو قل الاستسلام المترتب عليها غير مقبول من قبل الله تعالى ، فهذا فرعون (لع) بعد أن رأى من الآيات ما أعجزه وقهره قال : (( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ))[يونس/90] فأتاه الجواب : {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }يونس91. إذن لم يقبل الله تعالى إيمان فرعون القهري لأنه سبحانه يريد إيماناً حراً ، إيماناً بالغيب ، أو قل يريد إيماناً حقيقياً لا استسلاماً . ومن هنا لابد أن تقترن المعجزة بشيء من اللبس لتُبقي مساحة للشك والارتياب أو قل الاختبار لا يجتازها إلا من يملك مقداراً من الإيمان بالغيب ، وهو على أية حال مقدار يسير يُخشى معه على من يطلب المعجزة من الزلل ، بل إن النتيجة غالباً ما تكون الفشل فطالب المعجزة تتملكه الشكوك وتنتهي به الى التكذيب ، قال تعالى : (( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون )) ، (( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلاَ أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ)( {القصص/48}.
يقول السيد أحمد الحسن ع في صدد الحديث عن مسألة اللبس في المعجزة والهدف منه (( الناس يعرفون أن من معجزات موسى(ع) العصا التي تحولت أفعى وقد كانت في زمن انتشر فيه السحر ومن معجزات عيسى(ع) شفاء المرضى في زمن انتشر فيه الطب ومن معجزات محمد(ص) القران في زمن انتشرت فيه البلاغة وهنا يعلل من يجهل الحقيقة سبب مشابهة المعجزة لما انتشر في ذلك الزمان أنه فقط لتتفوق على السحرة والأطباء والبلغاء ويثبت الإعجاز ولكن الحقيقة الخافية على الناس مع أنها مذكورة في القرآن هي أن المعجزة المادية جاءت كذلك للّبس على من لا يعرفون إلا المادة فالله سبحانه لا يرضى أن يكون الإيمان ماديا بل لابد أن يكون إيماناً بالغيب (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) فالإيمان بالغيب هو المطلوب والذي يريده الله سبحانه والمعجزة التي يُرسلها سبحانه لابد أن تُبقي شيئاً للإيمان بالغيب ولهذا يكون فيها شيء من اللبس ولهذا كانت في كثير من الأحيان مشابهة لما انتشر في زمان إرسالها (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (الأنعام:9) ولهذا وجد أهل المادة والذين لا يعرفون إلا المادة في التشابه عذرا لسقطتهم (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) (القصص:48) فالتشابه أمسى عذرا لهم ليقولوا (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) و(إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) وقال أمير المؤمنين (ع) وهو يصف أحد المنافقين ( …جعل الشبهات عاذرا لسقطاته ) ، أما إذا كانت المعجزة قاهرة ولا تشابه فيها فعندها لايبقى للإيمان بالغيب أي مساحة ويكون الأمر عندها إلجاء للإيمان وقهر عليه وهذا لا يكون إيمان ولا يكون إسلاماً بل إستسلام وهو غير مرضي ولا يريده الله ولا يقبله (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ففرعون يؤمن و يسلم أو قل يستسلم وقبل أن يموت ولكن الله لا يرضى ولا يقبل هذا الإيمان وهذا الإسلام ويجيبه الله سبحانه بهذا الجواب (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ). هذا لأنه إيمان جاء بسبب معجزة قاهرة لا مجال لمن لا يعرفون إلا هذا العالم المادي إلى تأويلها أو إدخال الشبهة على من آمن بها وبهذا لم يبق مجال للغيب الذي يريد الله الإيمان به ومن خلاله ، فعند هذا الحد لا يُقبل الإيمان لأنه يكون إلجاء وقهراً وليس إيمان (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). ولو كان الله يريد إلجاء وقهر الناس على الإيمان لأرسل مع أنبيائه معجزات قاهرة لا مجال معها لأحد أن يقول (سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ) أو (أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) قال تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وقال تعالى (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فالحمد لله الذي رضي بالإيمان بالغيب وجعل الإيمان بالغيب ومن خلال الغيب ولم يرض بالإيمان بالمادة ولم يجعله بالمادة ومن خلال المادة )).
الحق إن الله سبحانه لم يكلف الناس شيئاً لا يستطيعونه ، فدليل الأنبياء والأوصياء (ع) كان دائماً أضوء من الشمس ، ولكن الناس لوثوا فطرتهم وغرهم بالله الغَرور وكانت النتيجة إن هؤلاء السادة الكرام لم يجدوا سوى ثلة قليلة من الناس تصدق بهم وبالحق الذي أُنزل معهم ، ثلة قليلة عادة ما يصفها المنحرفون ملوثو الفطرة بـ(أراذلنا) {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }هود27. إن عدم الإيمان تقف وراءه دائماً فكرة مهمة هي أن الشعار الذي يرفعه حجج الله ويصرون عليه هو ( لم اقل لأحد اتبعني أعمى ، بل أقول ميز الدليل واعرف صاحبه و أنقذ نفسك من النار ) ، أي إنهم (ع) يصرون على احترام إنسانية الإنسان ، ويأنفون من التعامل معه على وفق المنطق السلطوي ، بينما اعتاد الناس هذا المنطق . فالناس – وللأسف الشديد – ألفوا من يفكر بدلاً منهم ويتخذ القرارات بالنيابة عنهم ، بل إنهم اعتادوا أن يضع الطواغيت في أعناقهم حبال العقيدة التي يريدونها لهم وينقادوا هم وراءهم كما ينقاد القطيع وراء قائده ، أي أن يتحركوا بتأثير غريزة القطيع ، وفي ظل حالة من غياب الوعي ، وغياب السؤال عن المصير الذي يمكن أن تؤول إليه مسيرتهم . وهكذا استطاع الطواغيت بكافة أشكالهم ؛ السياسيون المتسلطون على العالم المادي والفقهاء المتسلطون على حركة الوعي والروح ، استطاعوا أن يقودوا مسيرة الإنسانية عبر قرون مريرة في نفق مظلم طويل لا نهاية له .
إن ما كان ينقص البشرية على الدوام هو الإيمان بالغيب ، الإيمان بوجود الله تعالى ، وبأنه يملك مجاري الأمور ، وإنه المحرك الحقيقي لكل ما في العالم . لا أشك في أن كثيراً من الناس ، بل ربما كانت غالبيتهم العظمى ، ولاسيما جيوش المستضعفين الجرارة ، كانت تؤمن على المستوى التنظيري الرخيص ( لقلقة اللسان) بأن الله تعالى قادر على كل شيء ، وأنه هو القوي الجبار ، ولكنها على المستوى الواقعي العملي كانت تتصرف بخلاف هذا الإيمان ، بل إن سلوكها يكشف عن أنها لا تؤمن بشيء مما تدعيه ، فالله بالنسبة لها قوي ولكنه قوي في عالم آخر غير العالم الذي يحكمه الطواغيت؟! وهو عز وجل عادل ولكن ليس في هذا العالم الذي يمارس الطواغيت فيه أبشع أنواع الظلم ! الله بالنسبة لهم لا يعدو عن كونه أفيوناً مخدراً يمنحنا إمكانية أن نستمرئ لقمة الحرمان المنقوعة بالذل والمنغصات التي يجرعنا إياها الطواغيت ( آلهة الواقع الفعلي المادي بحسب الناس ) . الغيب إذن كان بالنسبة للإنسانية عالماً يشوبه الكثير من الغموض ، عالماً أشبه ما يكون بذلك الذي تصوره الحكايات الخرافية ، فالمعادلة هي كالآتي : ( السماء بعيدة ، إنها أشبه بفكرة فلسفية غير مؤكدة ، أما الأرض فإنها قريبة جداً ، إنها أقرب من هراوة تشدخ الرأس) .
قليلون جداً أولئك البشر الذين اقتنعوا بكلمات الرسل التي هتفت بهم : إن حضور العالم المادي في وعيكم منشؤه الجزء الحيواني أو الجزء الطيني منكم ، وهو جزء طارئ ، عرضي وليس حقيقياً ، وإن عليكم أن تحرروا وعيكم من سطوة الطين لتدخلوا عالم الأنوار الحقيقي هو وحده ، أما المليارات الأخرى من البشر فقد أخلدت الى الطين والسبب هو أن الحرية تتطلب ثمناً ، ثمناً بسيطاً ورائعاً في الوقت نفسه ، هو أن يرتفع الإنسان الى مستوى إنسانيته ، أن لا يدع الجزء الحيواني يتحكم فيه ويصنع له قراراته و مصيره ، وهنا مفارقة عجيبة ، مفارقة مضحكة ومبكية في آن معاً ، فالإنسانية كانت دائماً تدفع أثماناً باهضة حتى وهي تعيش واقعها المذل ، بل إن هذا الواقع هو نفسه ، أي بصرف النظر عن الإذلال اليومي الذي يمارسه الطواغيت ، هذا الواقع هو ثمن كبير تدفعه الإنسانية ، وهو أقل كثيراً من الثمن الذي يمكن أن تدفعه فيما لو قررت التحرر !! إذ إن هذا الواقع – وليكن نظرنا مُصوباً الى تلك البلدان التي تعيش حالة الرفاهية الاقتصادية، بحسب النظرة المتعارفة بين الناس – هذا الواقع هو ثمن كبير تدفعه الإنسانية لأنه ببساطة يحجب عنها العالم الإنساني الحقيقي ، عالم الكمال والأنوار الإلهية ، العالم الذي يستحق وحده وصف الحضارة . إن المسألة الحقيقية هي أن هذه الإنسانية لم تكن تؤمن إيماناً حقيقياً بأن العالم الذي تعيشه ليس هو خاتمة المطاف ، بل إنها لا تؤمن بإمكانية أن يأتي اليوم الذي يتحقق فيه الوعد الإلهي بتحطيم عروش الطواغيت وتوريث الأرض لعباد الله الصالحين ، على الرغم من أن هذا الحلم كان دائماً يُقرّح أجفان هذه الإنسانية المستضعفة ، ولكنه للأسف الشديد بقي بالنسبة لها حلماً مستعصياً على التحقق ، ومنفذاً لتسريب شحنات القهر والألم في الوقت نفسه ، و لم يكن عدم الإيمان هذا سوى اختيار هذه الإنسانية حتى وإن لم تكن دوافع هذا الاختيار واعية ، أي حتى إن كان مدفوعاً بخداع محرفي الكلم و مخربي الشرائع ؛ فقهاء السوء الخونة الأراذل . فالإنسانية كانت على الدوام شريكة الطواغيت في ابتكار مأساتها !! فلم يكن انقيادها لفقهاء السوء الخونة ، المتاجرين بآلامها ، سوى التطبيق الفعلي لخوائها الروحي . لم تكن هذه الإنسانية في يوم من الأيام تحسب حساباً حقيقياً لقدرة الله تعالى فوجدت في كلمات فقهاء الضلالة المنكرة عاذراً ، وذريعة تسكت بها صوت الفطرة المتمرد .
الحق إن من أراد الله فعليه أن ينفذ كلمة التوحيد كاملة ، أي أن يبدأ من ( لا إله) فيحرر نفسه من عبودية الطاغوت وفقهاء السوء الخونة الذين يطلبون مجدهم لا مجد الله ، ويحرر نفسه من أسر المادة والدنيا وملذاتها الرخيصة ، ويتحرر خاصة من (الأنا) ويكون لسان حاله ومقاله التسليم ، فعندئذ – وعندئذ فقط – يجد نفسه في رحاب رحمة الله ، وفي حصن ( إلا الله ) .
قال عيسى (ع) : (( إن النور قد جاء الى العالم ، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور ، لأن أعمالهم كانت شريرة ، لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور ، ولا يأتي الى النور لئلا تُوَّبخ أعمالُه وأما من يفعل الحق فيُقبل الى النور ، لكي تظهر أعماله إنها بالله معمولة )) [إنجيل يوحنا] .
نعم الذي يستحب العمى على الهدى ويفضل الظلمة على النور فإنما تقوده أعماله الشريرة {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }المطففين14.
وهكذا كلما أوغل الإنسان في المادة والدنيا الدنية كلما ابتعد عن الروح والسماء ، وضيّع حظه . ومن هنا في الحقيقة يمكنكم فهم العداء البغيض الذي يكنه فقهاء آخر الزمان للسيد أحمد الحسن (ع) ، فالسيد الذي فضح جبن هؤلاء الفقهاء الذين تصاغروا أمام قوة أمريكا المادية ، وأقدموا على ارتكاب أبشع جريمة وهي التنصل من مبدأ حاكمية الله أو التنصيب الإلهي للحاكم ، يمثل مرآة نقية تفضح صور الجبناء بكل ما تحمله هذه الصور من قبح وبشاعة ، فجريرة السيد أحمد هي أنه طاهر نقي في زمن كل ما فيه يقطر رجساً وقذارة .
يقول السيد أحمد الحسن (ع) : (( الأنبياء يأتون ليرشدوا الناس إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها ثم يتركونهم يختارون بين الحق الذي جاءوا به أو الباطل الذي عليه الناس وكبراءهم من علماء الضلالة، وعادة بداية دعوة المرسلين تستند إلى شخصياتهم التي عرفهم بها قومهم واتصافهم بمكارم الأخلاق وصدق الحديث وأداء الأمانة ولكن الناس – وحتى القريبين من المرسلين- ولانهم نكسوا فطرتهم لا يستطيعون معرفة الحق الذي جاء به المرسلون فتبدأ المسالة بطلب الدليل على الرسالة فيأتي الرسول بالأدلة الكافية ليعلم الناس انه صادق ولكنهم يماطلون (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) (الأنعام: 37) (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ) (البقرة:118) (وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) (يونس: 20) (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)(الرعد: 7) .
ما هي الآية المطلوبة؟! آية علمية، آية روحية ملكوتية، آية مادية !!!.
الحقيقة أن الناس يختلفون في الآية المطلوبة والدالة على صدق المرسل عندهم فبعضهم يعتبر العلم والحكمة هو الآية وبعضهم يعتبر الآيات الملكوتية التي يراها الإنسان بنفسه أو يراها عدد من الناس يمتنع تواطؤهم على الكذب هي الآية المطلوبة ومن هذه الآيات الملكوتية الكشف في اليقظة والرؤيا الصادقة في المنام.أما ما تبقى من الناس فيعتبرون الآية المادية هي الدليل لا غيرها وهؤلاء بالحقيقة منكوسين ماديين وفي الغالب حتى لو جاءت الآية المادية لا يؤمنون إلا قليل منهم على شك وريبة في الغالب وبين يديك رسالات الأنبياء.
وعلى كل حال نتعرض هنا إلى هذه الآيات على التوالي :-
الآية العلمية:- ( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة: 2)
ولعل أهم مائز لدعوات المرسلين هو العلم والحكمة وحسن التدبير ولكن اكثر الناس لا يميزون بين الحكمة الإلهية التي ينطق بها المرسلون وبين السفسطة التي يعارضهم بها علماء الضلالة قطاع طريق الله سبحانه وتعالى.وعدم التمييز ليس بسبب صعوبة تمييز الحكمة كما يدعي أو يتوهم بعض الناس بل إن أهم أسباب هذا الخلط هو أن الناس لوثوا فطرتهم واصبحوا كالأعمى لا يميزون بين الخمر واللبن أو بين سفه الشيطان وحكمة الله سبحانه وتعالى وياللاسف فهذا حال معظم الناس في كل زمان وكمثال لتوضيح الحال التي وصل إليها المسلمون أن محمد (ص) جاء بالقران كمعجزة والمسلمون جميعا على هذا القول ولكن من الذي يميز أن القرآن آية معجزة ؟ فلو جاء اليوم محمد بن عبد الله (ص) ونزل إلى الأرض ومعه سورة قرآنية جديدة جاء بها من الله سبحانه وتعالى فهل يستطيع المسلمون أن يميزوا هذه السورة ويقطعون أنها من الله سبحانه وتعالى وبالتالي يثبت عندهم أن هذا الشخص الذي جاء بها هو محمد (ص) أقول وبلا تردد أن معظم المسلمين غير قادرين على التمييز وسواء منهم العلماء أم الجهلاء بلا إذا كان هناك مسلمين لم يلوثوا فطرتهم يستطيعون أن يميزوا هذه السورة ويعرفون أنها آية من الله سبحانه وبالتالي فان الذي جاء بها ليس شخصا عاديا.
أذن فالنتيجة المتحصلة أن محمد بن عبد الله (ص) لو جاء بالقران اليوم لكفر به معظم المسلمين ولم يؤمنوا به ولقالوا ساحر وكذاب .
الآية الملكوتية:- هناك سؤالان مهمان يطرحان نفسيهما في هذا المقام :
1. ماهي الآية الملكوتية؟
2. على من تكون هذه الآيات الملكوتية حجة؟
والجواب أن الآيات الملكوتية كثيرة جدا منها الافاقية الملكوتية ومنها الانفسية قال تعالى ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (فصلت: 53) أي قيام القائم بالحق ومن هذه الآيات:
1. نور البصيرة و اطمئنان القلب والسكينة إذا كان الإنسان على فطرة الله التي فطر الناس عليها لم يلوثها أو انه عاد إليها بعد انتباهه من الغفلة وتذكره.
2. الفراسة والتوسم في الآفاق والأنفس.
3. الرؤيا الصادقة في النوم.
4. الرؤيا الصادقة في اليقظة ( الكشف ) ومنها :
أ- الرؤيا الصادقة في الصلاة .
ب- الرؤيا الصادقة في الركوع.
ج – الرؤيا الصادقة في السجود.
د – الرؤيا الصادقة في السِّنة بين النوم واليقظة .
هـ- الرؤيا الصادقة عند قراءة القران.
و – الرؤيا الصادقة عند السير إلى أبى عبد الله الحسين (ع).
ز – الرؤيا الصادقة عند الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.
ح – الرؤيا الصادقة في أضرحة الأئمة والأنبياء(ع) والمساجد والحسينيات وغيرها كثير.
وكل هذه الأنواع من الكشف والرؤيا الصادقة هي آيات إلهية لأنها لا تكون إلا بأمر الله وبمشيئة الله سبحانه وتعالى ويقوم بها ملائكة الله سبحانه وتعالى وعباده الصالحين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون فهذه الآيات حجة بالغة لله سبحانه وتعالى على عباده لأنها كلماته التي يكلم بها الناس فمن كذب بها فقد كذب الله سبحانه وتعالى وهذا أعظم أنواع الكفر والتكذيب قال تعالى( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (فصلت: 53).
أي الآفاق الملكوتية والملكية وفي النفس الإنسانية ليتبين لهم انه الحق أي قيام القائم (ع) كما جاء في الروايات عنهم (ع) لان الناس يكذبون به ولا يصدقونه.
والله سبحانه وتعالى يعتبر أن معظم الناس غافلون ومعرضون عن الآيات النفسية و الآفاقية ولهذا يكون الكفر بالرسالات الإلهية نتيجة حتمية وحصيلة نهائية لا بد منها (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) (يونس: 92) (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) (يونس:7) (وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) (الحجر:81) . وفي النهاية يهدد الله سبحانه وتعالى هؤلاء القوم الذين لا يؤمنون بالآيات الأنفسية و الافاقية وخصوصا علماء الضلالة الذين يسفسطون ويجادلون لإبطال حجية هذه الآيات الإلهية ويتوعدهم الله سبحانه وتعالى .( وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (الحج:51)(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ) (سـبأ:38) ( إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ) (يونس: 21) (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) (سـبأ:5)
فهذه الآيات حجة دامغة سواء على أصحابها أم على الناس القريبين منهم والمعاشرين لهم أو على الأقل فهي على غير أصحابها أن لم تكن حجة لكثرتها فهي سبب يحفزهم بقوة للبحث في الدعوة الإلهية وتصديق الرسول الذي أرسل بها ولكن مع الأسف معظم الناس سيبقون غافلين عن الآيات الملكوتية حتى تخرج دابة الأرض تختم جباههم بأنهم كافرون بآيات الله ( وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ) (النمل:82) .
الآية الجسمانية (المادية) :- وهي آخر العلاج و آخر العلاج الكي مع أن الكي للحيوان لا للإنسان .
وعادة تكون بطلب وإلحاح من الناس بعد أن اعتذروا بأعذار واهية عن عدم التصديق بالمرسلين والأدلة الدامغة التي واجهوهم بها والآيات الأنفسية والآفاقية العظيمة التي أظهرها الله سبحانه وتعالى في خلقه لتصديق دعوة أولياءه ورسله الذين أرسلهم لأصلاح الفساد ( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (البقرة:118) وفي هذه المرحلة الأخيرة من الآيات أي مرحلة الآية المادية يكون العذاب مرافق للآية قال تعالى: ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (الأعراف: 73) فبمجرد التكذيب بهذه الآية واتخاذ موقف مضاد ينزل العذاب ( هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ) (هود:64) والحقيقة أن المتوقع هو الأعراض عن الآية المادية كما حصل الإعراض عن الآيات الأنفسية والآفاقية الملكوتية لأن المكذبين بملكوت السماوات وبغيب الله سبحانه وتعالى وبكلمات الله في الرؤيا الصادقة حتما هم أناس منكوسين قال تعالى:( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (الأعراف:146) وهؤلاء حقت عليهم كلمة العذاب لأنهم كذبوا كلمات الله وردوا أيدي المرسلين إلى أفواههم ولم يستمعوا كلماتهم وحكمتهم (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) (يونس 95-97) فعند هؤلاء كل آية مؤولة : جن, سحر , أو أي شيء آخر حتى يروا العذاب الأليم (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:132) (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (القمر:2) وفي النهاية وعندما يقف المكذبون على حافة جهنم يتذكرون كيف واجهوا المرسلين واتهموهم بأنهم سحرة فيأتيهم النداء لينبههم إلى عاقبتهم المخزية (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) (الطور:15) .
أما المعجزة المادية فهي لا يمكن أن تكون وحدها طريق لإيمان الناس بل الله لا يرض بهكذا إيمان مادي محض ولو كان يُقبل لقُبل إيمان فرعون بعد أن رأى معجزة مادية قاهرة لا تؤول وهي انشقاق البحر ورأى كل شق كالطود العظيم ولمسه بيده فقال :(آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
ولكن الله لا يرض هذا الإيمان :
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، وقد ترك الله بدن فرعون آية للناس ليتفكروا (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) ، ولكن قليل من انتفعوا بهذه الآية و (كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) .
كما ان المعجزة لا يمكن أن تكون لكل من يطلبها ، وإلا لآمن الناس جميعا إيمانا قهريا اجبروا عليه بما يرون من قدرة قاهرة لا طاقة لهم على مواجهتها ، ولن يكون هذا إلا استسلام للأمر الواقع وليس إسلام وتسليم للغيب والله سبحانه هو الغيب ولعل من تدبر في معجزات الأنبياء يجدها جميعا جاءت مشابهة لما انتشر في زمانهم فموسى يأتي بالعصا التي تصبح أفعى في زمن فيه عشرات يلقون عصيهم فإذا هي أفعى كما يخيل للناس ، وكذا عيسى جاء ليشفي المرضى في زمن انتشر فيه الطب ، ومحمد (ص) يأتي بالقرآن لقوم اشتهروا بالكلام والشعر ، فالأمر وما فيه أنها جاءت كذلك للبس قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)
وما هذا اللبس والمشابهة إلا لتكون هناك مساحة لتأول المتأولين الذين لا يؤمنون بالغيب ولتبقى مساحة للإيمان بالغيب ، وإلا فالإيمان المادي المحض ليس إيمان ، ولا إسلام ، ولا يقبله الله قال تعالى :
(قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ)
فالإيمان الكامل هو الإيمان بالغيب مائة بالمائة وهو إيمان الأنبياء والأوصياء ، وكلما كان الإيمان مشوبا بآية أو إشارة أو كرامة أو معجزة مادية كان أدنى واقل حتى إذا كانت المعجزة قاهرة وتامة ولا يمكن تأويلها عندها لا يقبل الإيمان والإسلام كما لم يقبل إيمان وإسلام فرعون لان هكذا إيمان هو إيمان مادي مائة بالمائة .
والله وصف المؤمنين بأنهم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)
(إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
والحمد لله رب العالمين )).
إن الناس ومن بينهم بعض مدعي العلم من قبيل الكوراني، كثيراً ما يصرون على طلب المعجزة ويشعر المرء أن إصرارهم هذا تقف وراءه فكرة مغلوطة مفادها أن المعجزة بظنهم هي وحدها دليل حجج الله تعالى، وهذه الفكرة في الحقيقة وهم كبير أوقعهم فيه بعض مدعي العلم كالكوراني مار الذكر ، فالمعجزة كما يعرف كل من قرأ القرآن الكريم لم تكن خياراً أو دليلاً يقترحه حجج الله لبيان أنهم يملكون ارتباطاً بالله عز وجل ، بل إنها تأتي عادة بناء على طلب أقوامهم المنكوسين الذين استخفهم فقهاء الضلالة وأغروهم بالتكذيب وعدم قبول دليل حجج الله تعالى، والقرآن الكريم يصرح في مواضع كثيرة بأن من يطلب المعجزة ينتهي أمره إلى التشكيك بها وإنكارها، وغالبا ما يجد أعذاراً واهية يبرر من خلالها تكذيبه وتمرده من قبيل رمي حجج الله بالسحر، (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:132) (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (القمر:2).
إن المعجزة دليل يُعرف منه اتصال الحجة بالله تعالى دون شك ، ولكنها ليست الدليل الوحيد، كما إنها ليست الدليل الذي يحتج به أولياء الله على أقوامهم، بل إنها كما سلف القول تأتي بعد طلب هؤلاء الذين يتذرعون بكل وسيلة لرد الدعوات الإلهية، ويأتي طلبهم في معرض عنادهم واستبطانهم أو تبييتهم الكفر المسبق بحجة الله، فهم يطلبون المعجزة المادية بعد أن تُعييهم الحجة عن رد الدليل، فيتصورون أن طلب المعجزة أمر سيعجز عنه حجة الله، ويضع بالنتيجة حداً لمعركتهم الخاسرة، فهم لا يطلبون المعجزة لأنهم حقاً يريدون معرفة الدليل، فالدافع بتعبير آخر ليس أبداً دافعاً إيمانياً، ولا هو طلب منبعث عن عقلية إيجابية تبحث عن الدليل، فالدليل مطروح دائماً ومنذ اليوم الأول للدعوة الإلهية، ولعله واضح إن من يطلب الدليل حقاً لا يقترح دليلاً من عند نفسه، بل ينظر في الدليل المطروح فعلاً من قبل حجة الله وأتباعه. إن من يطلب المعجزة المادية يحاول التعجيز، فهو لا يشعر بقرارة نفسه أن ثمة إمكانية ولو ضئيلة لئن تكون الدعوة الإلهية صادقة ومحقة، فهذا الاحتمال منتف تماماً بالنسبة له، وكل ما يحاوله ومن ضمنه طلب المعجزة إنما يصدر عن هذه الخلفية. هو يريد فقط وبأية وسيلة أن
والواقع إن النقض يسير للغاية على من يزعم أن المعجزة تمثل كل الدليل، أو الدليل الأساس للرسل والحجج والأنبياء، فبعض الأنبياء لم يُعرف عنهم أنهم أتوا بمعاجز لأقوامهم، والبعض منهم كنوح (ع) كانت معجزته العذاب، وعلى أية حال إن القول بأن المعجزة تمثل الدليل أو الحجة الأساس يستلزم أن ترافق المعجزة الدعوة منذ اليوم الأول للصدوع بها، لأنها إن تأخرت يوماً واحداً يعني أن من بلغته الدعوة في هذا اليوم ثم مات قبل أن تحصل المعجزة يكون معذوراً، وهذا ما لم يقل به أحد أبداً، بل إن تأريخ الدعوات الإلهية يشهد بأن المعاجز التي صدرت عن الأنبياء والرسل (ع) كانت تتأخر زمناً قد يطول كثيراً عن اللحظة الأولى للشروع بها.
وبالنسبة لقائم آل محمد (ع) فالروايات تتحدث عن ظهور الكثير من المعاجز على يديه ولكن هذه المعاجز تحصل في زمن قيامه بالسيف، وهي في غالبيتها العظمى تتخذ صورة عذاب ينصب على رؤوس أعدائه المعاندين، والعذاب كما ينص القرآن يسبقه إنذار {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء15. وعليه لا يسع أحد أن يطالب القائم بالإتيان بمعجزة لإثبات دعوته لأنه بهذا يخالف النصوص الواردة، ويثبت بهذه المخالفة للنصوص أنه يبيت التمرد والتكذيب سواء أتى القائم بالمعجزة أم لا ، لاسيما بعد أن علمنا أن المعجزة لابد أن تأتي مشوبة بعنصر اللبس، وبالنتيجة يكون تحقيق طلبه للمعجزة مجانب للحكمة والله أعلم وأحكم، وما أوتينا من العلم إلا قليلا ، رب اغفر لي زلتي وأقلني عثرتي وأنت أرحم الراحمين .
1٬493 17 دقائق