أخبار سياسية منوعة

إتفاقية الإذعان بين المتن والهامش

على الرغم من الوضوح الكافي لمواقف الأطراف ذات التأثير في اللعبة السياسية من إتفاقية الإذعان والذل التي فرضها المحتل ، وهو وضوح صرحت به كلماتهم دون خجل أو مواربة ، غير أن ثمة إثارات إعلامية كثيرة صدرت عن نفس هذه الأطراف بقصد التعمية والتمويه على حقيقة الفعل الخياني الذي أقدموا عليه .

فقد بادرت بعض القوى السياسية الى الإيحاء بأن الموقف المباين الذي وقفته بعض الجهات من الإتفاقية لم يكن أبداً وليد دوافع وطنية أو دينية حقيقية ، وإنما هو من نمط المواقف المتهورة البعيدة عن الواقع والتعقل ، بل إنها ذهبت في التخرص حد الزعم بأن معارضي الإتفاقية لا يريدون في حقيقة الأمر خروج القوات الغازية من الأراضي العراقية ، لأن خروج هذه القوات بتصور هذه القوى التي ألفت الذل والخنوع لا يمكن أن يتحقق بغير مثل هذه الإتفاقية الخيانية .

وهكذا ترشحت مساحة دلالية وظيفتها التعمية والتضليل أفرزتها مقولات لغوية مصطنعة أُقحمت في نسيج الفعل التبريري لبنود الإتفاقية المشؤمة من قبيل مفهوم الواقعية والتعقل المطاط ، بعد تغييب اللحاظات المسوغة لمثل هذه الإقحامات ، وهي لحاظات تأريخية وعقائدية تؤشر على الدوام العقدة الأصعب التي يتعمد الفكر السياسي العراقي تجاهلها والقفز فوقها لشعوره بالعجز الكامل عن مواجهة استحقاقاتها ، على الرغم من إنها تحديداً كان لها الدور الأكبر على الدوام في رسم معالم الواقع السياسي والإجتماعي ، حتى لقد أضحت – إذا ما شئنا الإقتباس من فرويد – كالعقدة المستعصية يتم الهروب منها عبر تحويرات وتمويهات دائما ما تشير لها ! وعلى أية حال كلنا سمعنا الكلمات التي ندت عن أكثر من طرف وهي تصرح بمشاعر الخوف وأجواء عدم الثقة من الآخر الشريك في الوطن التي تعيشها أطراف العملية السياسية ، وهي تصريحات أُريد لها أن تكون الحجة الحاسمة في تبرير الوقوع في هاوية الإتفاقية الخيانية .

وثمة آليات أخرى لجأ لها الخطاب التبريري من قبيل المغالطات الصريحة في ضرب المثل والمقارنة بين الواقع العراقي من جهة والواقع التاريخي الناجم عن الحرب العالمية الثانية الذي شهد توقيع اتفاقيات مماثلة لاتفاقية الإذعان .

وإذا كانت هذه الإثارات الإعلامية التضليلية تمثل الهامش بالنسبة لنفس الموقف العملي المبدئي من الإتفاقية ، فإن من الواضح الجلي إن أطراف العملية السياسية المتورطين في مستنقع الإتفاقية الآسن يحاولون تجريب لعبة المتن – الهامش ، حيث يتم استبدال الهامش بالمتن على مستوى الإعلام الموجه للجماهير ، بل تغييب المتن كلياً لحساب الهامش التضليلي ، في مسعى رخيص يستهدف تهريب الجريمة عبر اشغال وعي الجماهير بالتفكير بالوهمي بدل الفعلي المتحقق على الأرض .

بالأمس القريب قدم المالكي دفاعاً عن الإتفاقية يندى له الجبين ، وكان دفاعه يتركز دائماً على محور التذكير بالجنيات النائمة التي تستيقظ فور أن يتم رفض الإتفاقية ، وبتعبير آخر كان المالكي يمتح من بئر اللاوعي العميقة التي يريدها بعيدة عن العقل الواعي من جهة ويريدها من جهة أخرى حاضرة دائماً لتشويش مرآة الوعي الفعلي .

ومثله حاول كل من السيستاني واليعقوبي وجبهة التوافق السنية وجماعة إياد علاوي وغيرهم ، حاولوا كلهم أن يتنصلوا من العار المترتب على الرضا بالإتفاقية ، ولكن خطاباتهم التي تتصنع لغة الممانعة كانت تشفق كثيراً من نطق كلمة الرفض ، وكانت تجد فضاءها الرحب في تسقط العثرات اللغوية الكثيرة التي تحفل بها صياغات بنود الإتفاقية ، وهي انتقادات تتأطر عموماً بإطار التحفظ فحسب ، الأمر الذي يشير الى بقائها أسيرة لنفس الإتفاقية على مستوى الموقف المبدئي ( المتن ) ، ولكنها تلجأ الى الهامش على مستوى الخطاب الإعلامي لتبقي خط الرجعة مفتوحاً في حال تحقق المحذور الكامن في نصوص الإتفاقية .

والحق إن لعبة المتن – الهامش ليست لعبة طارئة ، وإنما هي بنية فكرية تختصر كل اللعبة السياسية العراقية ، ويمكن للمتابع أن يرى آثارها في كافة مفاصل المواقف السياسية ، فعلى الدوام يوجد متن يتم تمييعه وتهريبه عبر هامش يستقي مقولاته من خزين الذاكرة العراقية العميقة ، المكتظة بعقد الخلافات العقائدية والتأريخية .

ويمكن للمتأمل أن يرى على مستوى عميق أن أفق الفكر السياسي العراقي ينتهي عند فكرة مسكوت عنها تستوطن وعي من يسمون أنفسهم قادة سياسيين تتمثل بشعورهم بأنهم ينتمون الى شعوب وأوطان متعددة لا شعب واحد أو وطن واحد ، فالخلافات بينهم أكبر من أن يتم حلها عبر وضع ستراتيجيات تحاورية ، فيتم اللجوء من أجل ذلك الى الأجنبي .

هذا وحده يفسر تمسك الأطراف المختلفة بالإتفاقية مع المحتل الأمريكي ، فالشيعة السيستانيون يريدون الإتفاقية لأنها توفر لهم الحلم التافه المتحقق باعتلاء سدة الحكم في العراق وتبعد عنهم شبح الخطر السني ، والسنة من جهتهم يتمسكون بها لأنها توفر لهم مرجعية عليا هي مرجعية الأمريكي التي تبعد عنهم خطر التحكم الشيعي ، أما الأكراد فالوجود الأمريكي يحقق لهم حلم الوطن المستقل البعيد عن مكائد العرب .

وهكذا ينظر الجميع الى الوطن الواحد المزعوم على أنه هامش تحتم الضرورة الخارجة عن الإرادة التمسك به في مقابل الأوطان العديدة التي تمثل المتن ، وما أن يتم حل الإشكالية الجوهرية – العقائدية والتأريخية – التي تتحكم بمواقف كل الأطراف فإن لعبة المتن – الهامش ستستمر الى غاية غير معلومة ، وسيكون الخاسر دائماً هو الشعب – أو الشعوب – المغلوبة على أمرها .

Aaa-aaa9686_(at)_yahoo.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى