ما أشبه التيار الصدري بفيل ضخم برأس صغيرة ، فعلى مستوى الرؤية يؤشر الغموض الواضح والتخبط بل التناقض الذي يميز التيار الصدري ، بدءاً من رأس الهرم وانتهاءً بالقاعدة ، نمطاً من الروح الرومانسية المندفعة بقوة العاطفة الجياشة غير المهذبة أو المعقلنة ، ويؤشر من جهة أخرى حالة المراهقة السياسية التي تعصف بسلوك التيار الفكري والعملي وتجعله مهيئاً دائماً لتقبل تأثيرات القوى الأخرى ؛ الداخلية والخارجية على حد سواء . فالتيار الصدري بكلمة واحدة يمثل منطقة منخفض سياسي بالنسبة لخارطة العراق السياسية سرعان ما تحركه القوى الخارجية سلباً أو إيجاباً لتحرك من خلاله كامل المناخ السياسي .
ليس السبب الكامن وراء هذه الحالة طبيعة التيار الشبابية المرتبكة إزاء فائض الشعور الديني أو الوطني فحسب ، وإنما هو وبالدرجة الأولى ضيق الأفق الفكري الذي حشر التيار نفسه فيه ، وغموض خيارات الحلول التي يبدو معها التيار مفتقراً للشجاعة الكافية وعاجزاً عن الإقدام على عمل ثوري حقيقي يضع نصب عينيه ضرورة إحداث قطيعة سياسية حقيقية مع الوضع القائم .
فالتيار اعتمد – كما يصرح في أدبياته – على الخطاب الفكري الذي أنتجه السيد محمد الصدر ، وهو خطاب يمكن تحديد أهم منطلقاته بأسس ثلاثة كالآتي :-
1- رفض الإحتلال والطاغوت معاً .
2- الدفاع عن الإسلام ومذهب أهل البيت عليهم السلام .
3- مركزية الحوزة في قيادة الجماهير .
ولكن التيار لم يلتفت الى حقيقة جوهرية تتمثل بطبيعة المرحلة التأريخية التي كان السيد محمد الصدر رحمه الله يخوض غمار الجهاد فيها ، وهي مرحلة تختلف كثيراً عن المرحلة الراهنة ، فالمرحلة الصدامية كانت تهدد الكيان الإسلامي عموماً ومذهب أهل البيت على نحو الخصوص ، ومن هنا كان السيد الشهيد الصدر يركز على مركزية الحوزة القيادية وعلى ضرورة حفظ الكيان الحوزوي ، وبكلمة أخرى كان الحفاظ على الكيان الحوزوي بالنسبة للسيد الصدر يستمد ضرورته من كونه الكيان الممثل والحافظ للدين ومذهب أهل البيت عليهم السلام ، وبقدر تعبيرية هذا الكيان عن الوظيفة المناطة به وقيامه بأداء متطلباتها كان حرص السيد الصدر عليه ، وهو حرص لا يتنافى أبداً مع الهجمات القوية المباركة حقاً التي كان السيد الصدر يشنها على المتقاعسين من فقهاء الحوزة الصامتة كما يسميهم أو العلماء غير العاملين الراكنين للطاغوت وحكمه وتحكمه بالجماهير ، فهذه الهجمات كانت تعبر – بحسب الشهيد الصدر – عن حرصه على الكيان الحوزوي ومن ورائه المذهب والدين الذي كانت الحوزة الصامتة لا تبالي به بقدر ما تبالي بمصير أشخاصها المتخاذلين ومصالحهم الدنيوية الضيقة .
وبطبيعة الحال لا تقاس المرحلة الراهنة بمرحلة الطاغية صدام ، فالخطر الآن يهدد بنسف الإسلام من أساسه ، ومن جهة أخرى ، ولعلها الأهم والأخطر ، تقف الحوزة اليوم بكل مسمياتها ؛ السيستانية أو اليعقوبية أو غيرها من الأسماء البغيضة ، موقف العدو الأول للدين ، فهي التي تمنح المحتل الكافر إمكانية التحكم بدين الجماهير عبر تعطيل فريضة الجهاد الدفاعي المقدس ، وعبر فتاوى الكفر التي تيسر للمحتل تمرير مشاريعه المناقضة للإسلام جملة وتفصيلاً .
كل هذا كان يتطلب من التيار الصدري ، إن كان حريصاً حقاً على الدين الإسلامي ومنهج السيد محمد الصدر ، أن يقف موقف الرافض لهذه الحوزة الخيانية ويعمل على فضحها ومحاربتها ، ولكنه للآسف الشديد ما زال لا يرى لنفسه فضاء غير فلكها الملوث ، ولا زال يدافع عنها ويرغب بديمومتها بتصور أنها مظهر إسلامي صحيح بل بتوهم إنها المظهر الإسلامي الوحيد الذي بانتفائه ينتفي الإسلام ، ولعل هذا الوهم هو ما أوقع الصدريين فريسة سهلة ولقمة سائغة بفم الإيرانيين ، فالخذلان السياسي الذي قوبل به التيار الصدري ولاسيما في معركة النجف التي شكلت منعطفاً مهماً بالنسبة لطبيعة التحرك السياسي للتيار الصدري ، أقول هذا الخذلان دفع التيار الصدري نحو القبلة الإيرانية التي لا تعرف غير مصلحة الدولة الإيرانية وإن تشدقت زوراً وبهتاناً بشعار ولاية الفقيه المزيف .
على الصدريين أن يتعظوا من تجربة الأيام والأشهر المنصرمة حين باعتهم إيران وباعهم حزب الدعوة ، وشمتت بهم حوزات النجف المنحرفة ، فالفرسان العرجان مازالوا يرون إمكانية بل ضرورة إعادة الكرة مرة أخرى ، وهذه المرة لن تكون كسابقتها على أي حال .
وإذا كان الصدريون حريصون كما يزعمون على الشعار الذي يحملونه وهو الدعوة للإمام المهدي عليه السلام فإن لهم في الدعوة اليمانية الأفق الأرحب الذي يخلصهم من كل تناقضاتهم وتخبطهم ، والبيوت على أي حال لا يمكن الولوج إليها من غير أبوابها التي فتحها أصحابها .